القاهرة 17 نوفمبر 2020 الساعة 10:30 ص
بقلم: إدجار آلان بو
ترجمة: صلاح صبري
"وكذلك إذا سرتُ في وادي ظل الموت..." مزامير داود.
أنتم يا من تقرؤون ما زلتم أحياء ترزقون؛ أما أنا الذي أكتب، فلا بد أن وقتًا طويلاً يكون قد مضى منذ قطعتُ طريقي إلى وادي الظلال. في الواقع، لا بد أن تحدث أشياء غريبة، وتنكشف أسرار، وتمر قرون عديدة قبل أن يقرأ الناس هذه المذكرات. وعندما يقرؤونها، سيكذبها بعضهم، ويتشكك بعضهم، غير أن قليلين جدًّا هم الذين سيجدون الكثير مما يستحق التأمل في هذه الأحرف المحفورة بقلم من حديد.
كان العام عام رعب، ومشاعر أشد وطأة منه، مشاعر لا وصف لها على وجه البسيطة. تحققت نبوءات كثيرة وعلامات. وفي كل مكان، فوق الماء واليابسة، نشر الطاعون أجنحته السوداء. ومع هذا، فهؤلاء الخبثاء في النجوم، لم يكن خافيًا عليهم أن السماء قد اتخذت سمتها الشرير؛ بالنسبة لي، أنا أوينوس الإغريقي "Greek Oinos" ورفقتي، كان واضحًا أننا قد بلغنا سنة سبعمائة وأربع وتسعين حيث يلتقي- في أول برج الحمل- كوكب المشتري بكوكب زحل الرهيب ليشاركه حلقته الحمراء القانية. وإذا لم أكن مخطئًا، فإن ذلك الوجه الغريب للسماء قد تجلى، لا على مسار الأرض وحده، وإنما على أرواح البشر، ومخيلاتهم وتأملاتهم كذلك.
حول بضع قنانٍ من نبيذ "خيوس" الأحمر، بين جدران حجرة أرستقراطية فخمة، في مدينة "بطليموس" المظلمة، قضينا سهرتنا؛ كنا سبعة. ولغرفتنا، لم يكن ثمة مدخل سوى باب نحاسي شاهق: أبدعه كورينوس "Corinnos" ، وكونه نادرًا في صنعته، فقد كان مُسَكَّرًا من الداخل. كذلك، كانت الستائر السوداء تحجب عن نواظرنا ضوء القمر، والنجوم اللامعة، والشوارع الخاوية- غير أن هذه الستائر لم تكن لتحجب رابطة الشر، وذكراه. كانت هناك أشياء حولنا لا أستطيع أن أصفها بوضوح- أشياء مادية وأشياء روحانية- الهواء الثقيل- الشعور بالاختناق- القلق- وفوق هذا كله، تلك الحالة الفظيعة من الوجود التي تكون فيها الحواس يقظى ونابضة بالحياة، بينما تقبع ملكات الفكر هامدة بلا حراك. ثقل فادح جاثم فوقنا.. جاثم على أطرافنا، وعلى أثاث البيت، وعلى الكؤوس؛ وهكذا صار كل شيء خامدًا يرزح تحت وطأة هذا الثقل.. كل شيء فيما عدا ألسنة اللهب المترائية على المصابيح التي تضيء احتفالنا الصاخب. مرتفعة عاليًا في خيوط نحيلة من الضوء، ظلت تحترق جميعها شاحبة ساكنة؛ وفي المرآة التي صنعها انعكاس الضوء على سطح المائدة الأبنوس المستديرة التي كنا نجلس حولها، رأى كل منا شحوب وجهه، والنظرات القلقة في عيون رفاقه المرخاة الجفون. ومع ذلك، كنا نضحك، وكنا مبتهجين على طريقتنا الخاصة.. بهجة أقرب إلى الهيستيريا؛ ورحنا نغني لـ "أناكريون Anacreon" .. قصائده ضرب من الجنون؛ كنا نشرب بشراهة، رغم أن النبيذ له لون الدم. ولكن، ثمة ساكن آخر يشاركنا غرفتنا، هو زويلوس الصغير "Zoilus" . ميتًا، يرقد ممددًا، مسجًّى؛ هو حارس المكان وشيطانه. وا أسفاه! لم يكن يشارك في احتفالنا بأي نصيب سوى أن ملامحه التي شوهها الطاعون وعينيه اللتين أخمد الموت نيران الطاعون بهما إلا قليلاً، قد بدا عليها الاهتمام بابتهاجنا، مثلما قد يدرك الموتى بهجة هؤلاء الذين سيموتون لاحقًا.
ولكن رغم أنني، أنا أوينوس، كنت أشعر أن عيون الراحلين مسلطة عليَّ، فقد أجبرت نفسي على تجاهل نظرات المرارة التي بدت في تلك العيون، ومحدقًّا في سطح المنضدة اللامع، رحت أغني بصوت عالٍ ورنان. ولكن غنائي توقف شيئًا فشيئًا، بينما تردد صداه بعيدًا بين الستائر السوداء، ليتلاشى بعد ذلك تدريجيًّا. ويا للعجب! من بين تلك الستائر السوداء، حيث تلاشى صوت غنائي، رأيت ظلاًّ قاتمًا غير محدد الملامح يتقدم- ظلاًّ يشبه الظل الذي يصنعه ضوء القمر لإنسان عندما يكون القمر قريبًا من الأفق: ولكنه ليس ظل إنسان، ولا ظل إله، ولا أي كائن من الكائنات المعروفة. ثم أخذ يتردد برهة بين ستائر الغرفة ليستقر أخيرًا بهيئته كاملة على سطح الباب النحاسي. ظل مبهم، لا شكل له، ولا حدود، ليس ظل إنسان، ولا إله- ليس ظل واحد من آلهة الإغريق، ولا الكلدانيين، ولا قدماء المصريين. وافترش مدخل البوابة النحاسية، وقمة العامود، ثم استقر ساكنًا لا تصدر عنه حركة، ولا صوت. والباب الذي استقر عليه ذلك الظل كان، على ما أذكر، قريبًا من قدمي جثة الشاب زويلوس الملفوفة في الكفن. أما نحن السبعة المتجمعين هناك، حين رأينا الظل يزحف نحونا من بين الستائر، فلم نجرؤ على التحديق فيه بثبات، فأرخينا نواظرنا محدقين باستمرار في أعماق مرآة الأبنوس. وبعد فترة، أخذتُ، أنا أوينوس، أتكلم بصوت خفيض سائلاً الظل عن اسمه ومحل إقامته. فأجابني: "أنا الظل، وأسكن بالقرب من سراديب الموتى بمدينة بطليموس وقريبًا جدًّا من تلك البراري المظلمة التي تحدها قناة خارون ‘Charon’ الكريهة الرائحة". ثم نهضنا نحن السبعة من مقاعدنا ونحن نرتعد في فزع رهيب، فنبرات صوت الظل لم تكن لشخص واحد، وإنما هي أصوات العديد من الناس، يتغير إيقاعها من مقطع لمقطع وهي تتساقط كئيبة على مسامعنا، حاملة أصوات الآلاف من أصدقائنا الراحلين.