القاهرة 17 نوفمبر 2020 الساعة 10:17 ص
بقلم: طلعت رضوان
أعتقد أنّ أى إنسان بعد أنْ يتجاوز مرحلة الطفولة.. ويمر بالكثير من التجارب.. ويتنقل بين أماكن كثيرة، فإنّ ذاكرته تكون قد اختزنتْ الكثير من الأحداث.. والأحداث لا تكون إلاّ بصانعيها من البشر.. كما أنها لا توجد فى (فراغ).. وإنما لابد من وجود (مسرح الأحداث).
حول هذا الموضوع تدور محاور رواية (حصار الأمكنة) تأليف المبدعة السودانية الكبيرة (بثينة خضر مكى) الصادرة عن مؤسسة مجاز الثقافية- عام2019
بطلة الرواية (لمياء) تسعى للانعتاق من كل ما يــُـكبــّـل خطاها نحو الحرية، مثل أى كائن حى لا تــُـكتب له الحياة إلاّ بعد خروجه من (شرنقته).. ولذلك هى ترفض القيود التى فرضها الواقع، فبالرغم من اكتمال نضوجها، فإنّ أمها تمنعها من الخروج لمقابلة صديق لها.. وفى لهجة حاسمة باترة قالت: إياكِ والخروج، بنات الناس العاقلين، المؤدبات لا يذهبن خارج أبواب بيوتهنّ بعد غروب الشمس.. وعندما قالت لمياء لأمها أنها ستذهب لزيارة صديقة.. وعند العودة فإنها ستوصلها هى وأخوها.. وإذا بأمها ترد عليها: إنه أخوها هى.. وليس أخاكِ أنت حتى يتمشى معك.
لهذه الدرجة وصل التزمت الدينى فى المجتمع السودانى.. وهذا التزمت أحد أشكال الحصار الذى صوّرته المبدعة فى روايتها.. ولكن هل استسلمتْ الفتاة لهذا التزمت؟.. فبمجرد أنْ سمعت (كلاكس سيارته) ارتدتْ ملابس الخروج بسرعة.. وتسللتْ من الشقة بحذر خشية أنْ تنتبه والدتها لخروجها.. ولكن هل هذا التصرف يدل على أنّ لمياء تمتلك كامل إرادتها؟ فى إيحاء إبداعى فإنّ المبدعة أشارتْ إلى أنّ الفتاة لم تتخلص من رواسب الثوابت الاجتماعية، حيث قالت لصديقها بمجرد أنْ دخلت سيارته أنْ ينطلق بسرعة، خشية أنْ يراها أحد من الجيران.. وهكذا فإنّ الفتاة (المثقفة) والمدافعة عن حرية الإنسان، تماثلتْ مع أمها فى جزئية من جزئيات الثوابت (الخشية من الجيران).
وعندما تبادلا الحديث.. وودّ الصديق أنْ يتأكد من مشاعرها تجاهه.. وبعد أنْ قال لها إنّ حديثه معها هو حديث العاشق للحبيبة التى تعشقه، إذا بها تصعقه بردها الحاسم: أنا لم أقل لك أبدًا أننى أعشقك: وأنا تــُـعجبى حريتى.
وإذن فإنّ هذه الفتاة تحمل مكوّنات (شخصية مركبة) ولا أقول معقدة أو حتى متناقضة.. وإنما هى تحاول ترسيخ (مبدأ الاستقلال الذاتى) وقد عبــّـر الصديق عن انطباعه نحوها قائلا لنفسه: لماذا تخرج معه إذا لم تكن تحمل له عاطفة قوية مثله؟ وهو على يقين بأنها تحترمه.. وهذا ما لمسه منها طوال علاقتهما الممتدة لسنوات.. وكلــما سألها: هل هى تحبه؟ تتهرّب وتتحجج بأعذار كثيرة.. وكلــّـما طلب منها أن يتقدم لأسرتها للزواج منها.. فإنها تعتذر.
والمبدعة تلضم علاقتها الملتبسة بهذا الصديق بصديقه الشاعر السودانى (يوسف خليل) الذى اغتاله الموت فى ريعان عمر عطائه.. وتذكرتْ لمياء بعض أبيات من شعره: ((كنت قايل قلبى شاخ.. ومن سنين الحب همد.. وجمرة الوله القديم، الرماد كان شعلتها.. وما فى ريح تلهبها.. والوله جف وجمد)).
برجاء ملاحظة أن المبدعة- فى معظم صفحات الرواية- تستخدم الكتابة وفق المنطوق السودانى.. وأحيانــًـا مثل المنطوق المصرى.. ومن أمثلة ذلك ما قاله عمران لمأمور السجن.. وهو يعيد إليه الكتاب.. ولما لاحظ المأمور أنّ عمران ترك ورقة فيها ملحوظات على الكتاب.. وأخرجها وقدمها له قال عمران: خليها عندك فى مكتبتك، لأنها ((حتضيع منى فى السجن)) إلخ.. (ص117) لأنّ حرف الحاء هو حرف مستقبلى.. كما فى اللغة المصرية فى مرحلتها الثالثة (مرحلة اللغة القبطية).
والتشابه بين اللغتيْن المصرية والسودانية كثير فى الرواية، فعندما كان الصديق يتكلم ولمياء لا تتجاوب معه قال لها: حيلك حيلك.. سارحه وين؟ انتى بتحبى واحد تانى غيرى؟ ولما قالت: حصل إنى قلت لك فى يوم أنا بحبك؟ قال: انتى قاسيه.. ما هو (باين فى عيونك) هنا يجب ملاحظة أنّ: 1- حيلك حيلك تعبير مصرى للدهشة والاستنكار2- سارحه وين؟ (وين؟) يقابله (فين؟) فى المصرى 3- (وين وفين) تأتى فى آخر الجملة.. وهى خاصية فى أدوات الاستفهام المصرية: اسمك إيه؟ كنت فين؟ مقابل ما اسمك؟ أين كنت؟ بالعربى.. وهذا يدل على تقارب اللغتيْن المصرية والسودانية من حيث البنيه Structure..وعندما كان يستعدان لركوب المعدية، فإنّ لمياء شعرتْ بالخوف، فقال لها: مدى إيدك ما تخافى.. وبعد أنْ مـدّتْ ساقها اليسرى، سحبتها ومـدّتْ اليمنى لأنّ ذاكرتها مازالت تحتفظ بتعليمات أمها: استخدمى إيدك ورجلك اليمين فى كل شىء.
وعندما دخلتْ بيت عمتها قالت فتحية ابنتها: الأمانة وصلت، فقالت لمياء: أسبوع واحد ((عشان عندى مقابله مع الدكتور، زى ما قالت أمى)) هنا فإنّ ذاكرة لمياء ليست محتشدة بالأشخاص والأماكن فقط.. وإنما أيضـًـا بما اختزنته من مفردات (سودانية/ مصرية) وذلك كما فى استخدامها كلمة (عشان) بمعنى (من أجل أو لكى بالعربى) واستخدمتْ (زى) بمعنى (مثل) بالعربى.. وفى إشارة موحية من المبدعة فإنّ طيور البيت والمواشى رحــّـبتْ بلمياء عند رؤيتها، فكانت رسالة المبدعة: ليس الإنسان فقط.. هو من يختزن الذكريات.. وإنما الحيوانات كذلك.. وحامد ابن خالة لمياء عندما رآها قال: ((بت المدن.. سلام عليكى)) وهنا تأكيد على أنّ المبدعة (نفسها) محتشدة بمخزون النطق (السودانى/ المصرى) لأنّ حامد حذف حرف النون من كلمة (بنت) وهو تأكيد جديد على تقارب اللغتيْن المصرية والسودانية.
وعن علاقة لمياء بصديقها وقريبها (عمران) فهى من المحاور المهمة فى الرواية، فبعد أنْ تعلقتْ به سافر إلى سوريا.. وهناك تـمّ اعتقاله.. وعندما عاد إلى السودان ظلّ هاجس اعتقاله من جديد يسيطر على تفكيره (زمن حكم جعفر نميرى) وطلبتْ منه أنْ يحكى لها ما حدث بعد عودته إلى السودان فقال: بعد أنْ فشلتْ المحاولة الانتقلابية، انقلبتْ كل توقعاتنا.. وتـمّ اعتقالى بسجن كوبر بالخرطوم.. وحــُـكم علىّ بالسجن خمس سنوات.. وادعى النظام أننا عملاء.. وظلتْ أجهزة إعلامه تنبح ليل نهار.. وتنعتنا بأبشع الصفات.. والبسطاء من الجماهير صـدّقوا أكاذيب النظام.. وأبواق دعايته.. وأضاف: زملائى الثوار الذين حاولوا السيطرة على مطار الخرطوم.. واعتقال الرئيس نميرى، فور عودته من الخارج، فوجئوا بأنّ طائرة الرئيس، تغير موعد هبوطها، فقد وصلته محاولة الانقلاب ضده.. وفشلتْ محاولة التخلص منه.. ومن نظامه.. وتضاعف تعذيب المعتقلين السياسيين.. وسألها: هل تريدين المزيد من الحكايات؟ أم تكفيك هذه الأغانى الوطنية البائسة.. وداعبها قائلا: عليك اللعنة يا لمياء.. أفسدت علينا هذا الجو الرومانسى.. اعتذرت وقالت: لم أتصوّر أبدًا أنّ الأمور وصلتْ فى وطنى إلى هذا الحد.
فى تلك الليلة لم تستطع لمياء النوم.. ونشط ذهنها.. وقامت تبحث عن الكتب التى يراها النظام (خطيرة.. وتــُـهـدّد عرشه)..وجمعتْ هذه الكتب.. وبحثتْ عن مكان لإخفائها.. وبحثتْ أيضـًــا عن الرسائل الخاصة، فعثرتْ على خطابات لم تــُـرسلها من بينها رسالة لعمران قالت فيها: من حبيبة لا تجرؤ على البوح.. وتنهدتْ وابتسمتْ بعد أنْ عاد.. واطمأنتْ عليه بعد غياب دام سنوات.
عمران زاحم أحلام لمياء.. وهى طالبة بالجامعة، دون أنْ تجرؤ بالاعتراف بذلك.. فهى طالبة قروية.. وعاشتْ تحت سياج التقاليد والنظم الحديدية للأسرة، التى لا يستطيع رجل أو امرأة كسرها.. والخروج عن نطاقها.. وذات مرة سمعته يخطب وسط الطلاب المنبهرين بحماسته، فاقترب منها وقال: أشكرك على حماستك فى متابعة قضايا المهمشين.. وأنا أعرف أنك بنت أرسقراطية.. سألته: كيف عرفت أننى بنت أرستقراطية؟ قال: لمياء اسم جميل يجمع بين الأرستقراطية والحداثة.
لمياء وقفتْ مع زميل فى الكلية فى محنته بعد انتحار شقيقته.. وسمعته وهو يخاطب النيل قائلا: أيها النهر لماذا لم تخف جثمانها؟ لماذا لم تدع التماسيح تأكل جسدها الذى لوّث شرف العائلة؟ حاولتْ لمياء التخفيف عنه.. ولكنه فكر فى الفارق الاجتماعى بينه وبينها.. وانتهز فرصة مرور زميل.. وقال لها: عن إذنك دقيقه واحده بس.. هنا تأكيد جديد على أنّ المبدعة- مثل بطلتها- محتشدة بمخزون المفرات المصرية/ السودانية، حيث أنّ كلمة (بس) من الكلمات التى يستخدمها شعبنا المصرى فى أحاديثه عدة مرات فى اليوم الواحد، مثال: الموظف الذى يعترض على مبلغ المكافأة يقول: هما دول بس. والأم تعنف طفلها الشقى وتقول: بس اسكت.. والإنسان الذى تظاهر بالتعفف عند تناول مبلغ التبرع يقول: بس لوما كنتش تحلف.. وهكذا فى استخدامات كثيرة.. وهى كلمة كان يــُـردّدها جدودنا زمن مرحلة اللغة القبطية.. وقد عرفتُ من أصدقائى السودانيين أنّ شعبهم يستخدمها كثيرًا.. وقال أحدهم ضاحكــًـا ((زيكم يا مصريين)).
ومنال المريضة تقول للطبيب الذى ترتعش يده: شغلك كتير فى المستشفى.. وشكلك تعبنان (ص82).. فالمبدعة كتبتْ (كتير) بالتاء وليس بالثاء كما فى اللغة العربية. أما كلمة (تعبان) فهى البديل للكلمة العربية (تعب أومتعب) على صيغة (مفعل) بينما انحاز شعبنا لصيغة واحدة (فعلان) بدلا من تعدد الصيغ.. وعلى سبيل المثال: حائر(صيغة فاعل) تكون بالمصرى (حيران) وأجرب (صيغة أفعل) تكون (جربان) وكسول (صيغة فعلول) تكون كسلان.. إلى آخر الصيغ العربية (وعددها 8) بينما فى البنية اللغوية المصرية صيغة واحدة (فعلان).. وكما تشابه الشعب السودانى مع شعبنا، فى بنية اللغة المنطوقة، تشابه معنا فى أشياء كثيرة، لها علاقة بالثقافة القومية، بمعنى مجموع أنساق القيم (وفق التعريف العلمى) ومن ذلك- على سبيل المثال- ولع الشعب السودانى بالاحتفال بالموالد.. وبصفة خاصة الاحتفال بنى الإسلام محمد (صلى الله عليه وسلم) (ص112).
وبالرغم من أهمية هذه الرواية على المستوى الإبداعى.. وعلى مستوى التقارب الثقافى والوجدانى بين المصريين والسودانيين، فإنّ المبدعة جانبها الصواب عندما ذكرتْ أنّ الفتاة منال ((مختونة ختانــًـا فرعونيــًـا)) (ص76).
وأذكر أنّ الكاتبة الكبيرة الأستاذة حُسن شاه كانت مثالا حيًا على شجاعتها الأدبية، ذلك أنها كتبتْ أنّ عادة ختان البنات فرعونية (أخبار16/12/2005) فأرسل لها د.عبدالمنعم عبدالحليم سيد أستاذ التاريخ القديم والآثار- جامعة الاسكندرية- كلية الآداب- مقالا قصيرًا فنّد فيه هذا الادعاء.. ورجاها أنْ تنشره فى العدد التالى.. وبالفعل نشرته فى عدد يوم الجمعة 23/12 وجاء به: هذه معلومة خاطئة.. وإنّ الأدلة على أنّ المصريين القدماء لم يُمارسوا عادة ختان الإناث على الإطلاق طوال العصر الفرعونى هى:
أولا من الآثار: فى مقابل تكرار مناظر ختان الذكور التى وردتْ فى الرسوم على الآثار المصرية القديمة (أوضح رسم لعملية ختان الذكور منظر فى مقبرة عنخ- ماحور فى سقارة) فلم يرد منظر واحد لختان الإناث).
ثانيًا: فى مقابل ورود وصـْـفاتْ طبية على البرديات المصرية القديمة لمداواة الجرح الناتج عن هذه العملية للذكور (مثال ذلك الوصفة رقم 734 فى البردية المسماة بردية إيبرس) فلم ترد إشارة واحدة تُـفيد ذلك بالنسبة للإناث.
ثالثًا: لم يثبتْ من فحص مومياوات الإناث المصرية العديدة ممارسة هذه العادة على أية واحدة منهنّ.
رابعًا: أنّ المؤرخ اليونانى هيرودوت الذى زار مصر فى القرن الخامس ق. م.. وكانت الحضارة المصرية مازالت فى أوج انتشارها، لم يذكرأى شىء عن ختان الإناث، بينما أشار إلى ختان الذكور فى ثلاثة مواضع من كتابه عن مصر فى الفقرات أرقام 36، 37، 104)
((هذا وقد ورد فى مقالك أنّ هذه العادة إفريقية.. وهى معلومة صحيحة تمامًا.. وتفسير ذلك أنّ جنوب مصر تعرّض فى عصر الاحتلال الرومانى الذى بدأ فى عام 30 ق.م لغزوات دولة إفريقية دخلتْ فى صراع مع الرومان، وكانت عاصمتها بلدة (مروه) القريبة من مدينة شندى.. وعلى ذلك فإنّ ختان الإناث عادة إفريقية الأصل.. ولا توجد أى صلة بينها وبين مصر)) وكان تعقيب الأستاذة حــُـسن شاه أنْ شكرته واعتذرتْ عن خطئها.