القاهرة 10 نوفمبر 2020 الساعة 11:19 ص
بقلم: حاتم عبد الهادى السيد
يطل علينا الشاعر عاطف عبد العزيز في ديوانه "ترجمان الروائح" من شرفة النور إلى شرفة العشاق، ليأخذنا عبر رحلة خاصة جداَ إلى قاموس اللغة المشرقة، حيث مشهدية الوصف والذى قد يتمثل أمامك صوراً، أو أشباحا تتحرك، ليشرك القارئ معه في نسج أحواله، حيث الوجد يحرّك الجراح، وينكأ الروح، ليعيد رسم تفاصيل الحياة العادية، بصورها وظلالها، بآمالها وآلامها، وطموحاته وأيامه مع محبوبته، وأصدقائه الذين يتجسّدون عبر سرديّةِ السَادر من مشكاة فوقية،لا ينزل منها، بل يرفعك اليها لتشاهد كشوفاته،عبر منمنات لغة تحاول أن تجسّد التصوف تارة إلا أنها تتهجّى الواقع.
لغةً تعيد للشعريّة رونقها، وألقها، وبريقها وإشعاعاتها السيمولوجية، والتي تشبه السحر الممزوج بعبق خاص، عبقٍ مشاهداتى يتبدّى فيه الشاعر حاضراً/ غائباً، حيث تتحرك الأحداث ديناميكياً :ذاته، وذات الحبيبة الغائبة/ الحاضرة، معشوقة الخيال التى يجسّدها عبر "بورخيس" تارة، أو من خلال تجسيد محبوباته، وغرامياته معهن، في رحلة البحث عن غواية تعادل السعادة، أو نشوة ترتفع إلى ذروة الاشتهاء، ولكنها تنزع عنها مذاق اللّذة، لتحيلنا إلى الميثولوجيا، الأسطورة، أو لتتطهّر الذات من أدرانها، لتعيد رسم الحياة والعالم من جديد، فنشاهده عبر الغرف المغلقة غريباً، يتسكع على الحالمات بالسّقاية، والمطر السيموطيقى، الذى يحيلك إلى عالم الدهشة والتّوق، وربما الفرار أيضاً من مشكاة الجمال إلى الواقع الأشهى، واقع المحروم الذى كلما همّ بسُقيا المطر الدافق أفاق، وجعلنا نفيق معه إلى صداع الحاضر، ومرارة الأيام ، ولا نجد أبلغ من أن نصفه، كما أخبرنا، بأنه حطاب، وفقط.
يقول: (لا شأن لى بجسمك يا رخامتى/ البيضاء/ لا شأن لى بحائط عريض لا كوّة فيه/ ولا نافذة/ فأنا، محض حطّاب يقف على باب غابة/ مرّت بنيران/ أو مرت بها نيران/ أما النحيب، فأمر لا أظنه، سوف يخص أحداً هنا.. النحيب له ناسٌ/ من طينة أخرى. ( الديوان، ص: 100:98).
إنها اقتصاديات اللغة المائزة، التى يُغلّفُ بها نصوصه، فلا نجد حشواً، أو كلماتٍ ليس لها دلالة، بل إحالاتٍ ضمنيّة، تحيلنا إلى أحوال العاشق، العابرالغريب، الذى يهيم بين البناياتِ مع مطر ديسمبر، يحلم بالدفء، ومدفأة امرأة وعدها بكتاب لبورخيس، بينما الأمطار أحالت الواقع إلى خوض في الفكر والخيال، حيث نراه لا يبحث عن وظيفة ليقتات منها، بل رأيناه يجرّب كل المهن، حتى عمل جامعاً للقمامة، لبعيد اكتشاف العالم.
يقول: (لم لا أكون كاتباً للرسائل الغرامية، مثل فلورنتينو أريثا، العاشق في زمن الكوليرا، سجلّ طويل من العشيقات الخلاسيات سيكون آنذاك في حوزتى، ولسوف يصرن جميعهن من ضحاياى بعدما / أرسم على سُراتهنّ سهماً نازلاً، ثم أكتب فوقه: "هذا لى"). (الديوان، ص:13).
وعبراللغة الإيروتيكية، وبمهارة عارف باللغة وطبائعها وأحوالها، يحيلنا الى فلسفة الشعر، عن طريق استخدامه لتقنيات الصورة/ الظل، التدوير الشعرى، إلى جانب فكرة الديمومة والتتابع، واجترار المعانى، وترادفاتها المائزة، ليحيلنا إلى لغة حيّة، تشتق لذاتها مكاناً عبر التجاور الدلالى، والإحالات السياقية، التى تجعلنا نقف أمام خطاب يعيد موسقة اللغة، على إيقاع رقصة، ذات تصاوير ٍتساوقيّةٍ سامقةٍ، ومبهرةٍ، رقيقةٍ، وفاجعةٍ، ومدهشة، مائزة، وذات دلالات رمزية هائلة..
كما يحيلنا الشاعر عاطف عبد العزيز إلى جانبٍ مُهِمِ في الشّعريةِ، إذ يُشرك القارئ طوال الوقت معه، فيأخذه طوعاً، وكرهاً، إلى عالمه الممتدّ، فيشاهد معه: "حاملة الجرار"، أو سالى زهران، ريم، حبيباته، وعشيقاته، وصديقاته الخُلاسيّات، فيعيش القارئ الحالة النفسية، بل وربما ـعبر- الاضطجاع الفكري -إن جاز لنا هذا التعبيرـ أن يجعله يخترق عقله، ويسبح معه عبر آلامه وأحواله، وخيالاته، وربما وجدنا القارئ معه في فراش عشيقاته، كذلك، بما يدلّل إلى دقّة الوصف، وجمالياته، ودِقّته في اختياره للألفاظ المُونّقَة الحالمة، والأثيرة، التى تستلب لباب فكره، وتذهب بروحه ووجدانه ، فينجذب الى عالمه، وكأنه قطب مغناطيسىّ يسبح في سُرّة العالم: يحاور ويتحاور، ويؤسس لذاتيّته شعريّة مُتَبدّاة، حالمة ومائزة، وجميلةِ أيضاً، يقول: (حظّى من الوقت تحنان/ وتحنانى/ فخ نصبته للوقت/ كأننى في مدينة تركها/ نبيها/ على حافة الخريف/ ومضى/ يكمل الرسالة. ( الديوان ص: 62).
إن ديوان: "ترجمان الروائح" يُمَكيِج اللّغة، التى تحاول أن تتشبّث بالصوفية تارة، والإيروتيكية تارة أخرى، أو هى لغة الجسد الساخنة، العفيفة، البكر/ الصافية، التى تهطل بالدفء، لكنها فقيرة أيضاً من أىّ سعادةِ حقيقيةِ، بل يتبدّى المَرارُ فوق سخونة الفراش، فينهدم المعبد الإيروتيكى لنشاهد "الطُهر الشّعرِىّ" أو التّطهر للذات الموجوعة بمرار الحاضر، كما في وصفه للقاهرة المحروسة، أو في بروتريه: "حلمى سالم"، أو عبر مناجاته لصديقه "على شرقاوى"، فنراه في مدارج السالكين، طفلاً ينحو إلى التّوق، وإلى اكتشاف العالم من خلال استكناه الذات، وعلاقتها بالجسد،والمحبّة، والألم والتّوق.
يقول: (لدينا فائض من الوقت لكى نكتشف الحياة: سنساعد من الآن زوجاتنا الحبالى/ سنحممهن بأنفسنا/ حتى نسرّب الحُبّ في الرحمة/ سنجمع لهن الحطب الذى يكفى الشتاء/ بطوله/ سنرفع لهن الحنطة الى السطح/ وسننقل الماء الى البيوت على الأكتاف، والخليج ملآن/ القمر ليس مكتملاً في السماء هذه الليلة، ولن نلعب بالعصا/ فنحن.. لم نعد نحن، وهذا السبيل إلى النقصان/ مقطوع . ) الديوان ص:89 :91).
إلا أن الصدمات في: "مدارج الخذلان" أو في: "رقّ الحبيب"، أو فى قصيدة: "تحت باب الفتوح " قد تحيلنا الى فيلسوف جديد للشعر،لا نقول "ابن عربى" جديد، ولا حلّاج للعصر الحديث فحسب، بل هو الشاعر/ عاطف عبد العزيز، وحسب، يغزل من صوف المفردات رداءً لشعريّةِ تخاطب الذات والآخر، الجسد والعالم، وتمزج طين الرغبة بطين الجسد والحياة، لتعيد للشعر غلالةً، كانت قد تهرّأت في زمن نعيشه إلا أنه بمهارة فارس، نراه يمسك بغلالة الشعر، ليعيد انتاجية القصيدة كما رأها، وتغيّاها، وكما أرادها، وأشركنا معه في رسم مشاهدها الرائعة، عبر الذات السادرة في الكون، والعالم، والحياة.