القاهرة 03 نوفمبر 2020 الساعة 02:02 م
كتبت: سماح ممدوح حسن
فى طفولته وصباه، حالت الظروف، العائلية والاجتماعية والاقتصادية، بينه وبين معرفة أبيه. حتى فى شبابه لم يحاول السعى لمعرفته، ظنا منه أنه يكرهه. لكن بعد موته، أجبرته وصية الأب المتوفى على السعى لتلك المعرفة، وكانت تلك هى قصة المهندس "هانى" فى رواية "النداء الأخير للركاب.. أحمد القرملاوي"، من إصدارات "مكتبة الدار العربية للكتاب" عام 2018.
حالما يشرع القارئ فى الرواية سوف يألف الأحداث التى ربما شاهدها من قبل ربما فى الحياة الواقعية عن ذلك الأب والأبن اللذين تفرقهما الظروف، ولا يتعرف الابن على أبيه إلا بعد الموت. لكن فى حكاية "النداء الأخير للركاب" سيتأكد القارئ أن الغرض الأساسي الذى من أجله كتب الأب الوصية، الحلزونية، لابنه لأنه كان يريده أن يتعرف عليه وعلى شخصيته وكيانه الحقيقي بعد مماته بعدما حالت الظروف بين تعارفهما فى الحياة، وقد نجح الأب كليا فى ذلك.
تحكي القصة عن المهندس "هانى" المهاجر إلى أمريكا، ولم يعد إلى بلاده إلا لتسلّم ميراثه من أبيه بعد مماته. لكن لحصوله على هذا الميراث كتب الأب وصية واجبة التنفيذ كشرط لحصول الابن على التركه. اتضح للابن الوريث فيما بعد أن الوصية تشبه المتاهة، تتطلب منه السفر والبحث فى شرق الأرض وغربها، وقطع رحلة من الكويت للنمسا ورجوعا إلى واحة سيوه المصرية. وأثناء الرحلة اكتشف ما لم يخطر له على بال.
كانت أولى رحلات الوصية إلى دولة الكويت، حيث كان هانى ملزما بالبحث عن رجل عجوز لتسكينه فى بيت مريح ومنحه حياة مستقرة. فى تلك الرحلة اكتشف "هانى" أن أباه شخصية لم يحلم حتى أنها موجوه. كانت الكويت هى البلد الذى استقر فيها الاب بعد أن أحيل على المعاش من وظيفته كضابط للجيش المصري بعد انتصار أكتوبر. وبهذا البلد حقق أحلامه وأيضا حدث له الانكسار الأكبر والذى كان السبب فى الصدع الأكبر فى علاقة الأب والابن. عاش الأب فى الكويت فى فترة الغزو العراقى للكويت، وحينها انضم الأب إلى حركات المقاومة، ولقى من طغيان الغزو ما لم يره فى أعتى المعارك وهو رجل جيش. لكنه أيضا أبلى أفضل البلاء فى الدفاع فى صفوف المقاومة. لكنه انكسر بعد مقتل أصدقائه، واستطاع الرجوع إلى مصر ليمر بظروف نفسية وعصبية مروعة انعكست على أهله وجيرانه وكل من يعرفهم، تحول إلى وحش يفتك بكل من حوله، حتى ترك البيت وغادر مرة أخرى.
عرف "هانى" كل تلك التفاصيل من أوراق تركها محامى أبيه بالكويت، وعرف أكثر من ذلك. فقد عرف بالصدفة أن أبيه كان سفيرا، وكان له مكانة رفيعة فى المجتمع الكويتى بعدما قدم الكثير حتى جلاء الغزو الكويتي، ومن تلك الأوراق أيضا عرف كيف تعرف أبيه على زوجته النمساوية، المحطة التالية فى الرحلة، وكيف كانت أحدى ضحايا التعذيب والاغتصاب، واستطاع أبيه إنقاذها بعدما أحبها. فى رحلة الكويت كان هانى مكلف بالبحث عن "كريشنا" العجوز الهندى المهاجر غير الشرعى إلى الكويت التى لم يعرف غيرها وطنا. تعرّف عليه الأب أثناء فترة الغزو، وعرف ظروفه، ولما لم يستطع مساعدته فى الحياة قرر مساعدة فى الممات، حيث وصى ابنه أن يشترى له منزلا مريحا يسكن فيه. وقد وفىَ هانى الوصية وفعل لينتقل الرحلة التالية إلى النمسا بعدما مر بأحداث وسمع حكايات وقابل شخصيات انتزعته من عالمه الغريب الذى كان يحياه حياة تشبه الموت فى أمريكا، حيث تزوج من امرأة تكبره فقط بست سنوات لكنها بسبب تلك السنوات تعيش فى شك دائما فى زوجها وإمكانية خيانته لها بسبب تلك السنوات القليلة، وأيضا مع ابنته "ساندى" تلك المراهقة المتمردة، المتخاصمة معه دوما، وهو يتنازعه اختلاف الثقافات مازال، فهو يخاف عليها ويقلق مما يجعله يقيدها، وهى تصّر على خصومته لأنها ترى رجعيته. لكن الرحلة كانت أحد الأسباب فى صلاح تلك العلاقة فيما بعد.
فى النمسا، تنتظر هانى مفاجأة، حينما ظهرت له أخت! كانت الرحلة التالية فى الوصية هى النمسا، إلى زوجة أبيه. والتى تعرّف عليها فى الكويت واستطاع إنقاذها من يد الجند العراقيين الذين اختطفوها وأخريات من تلك البعثات الأجنبية سواء التعليمية أو الصليب الأحمر، وتناوبوا اغتصابها. أنقذها الأب وعالجها. عشق كل منهما الآخر وتزوجا. عشقها الأب حتى أنه لم يفعل بعد زواجهما إلا أنه ظل يحرسها ويحرص على سلامها، دون أن ينتظر منها مقابلا. حتى العلاقة التى أنجبا فيها ابنتهما لم تكن إلا عملية "حقن مجهري" وذلك بعد رفض السيدة وكرهها لكل العلاقات بعدما تسممت نفسيتها مما حدث لها فى الكويت.
يسافر هانى إلى النمسا ليحصل على أوراق ملكية أسهم فى مزرعة فى واحة سيوه المصرية، كان أبوه قد كتبها لزوجته وهى رفضتها، لذا اتفقا على إن ظلت على رفضها لهذه الأسهم فلتمنحها للابن بعد الممات. وبالفعل سلمتها له فى زيارته إليها ليعود بعدها إلى سيوه، المحطة الأخيرة والتى اتخذ فيها قرارات أهمها أن يبدأ عيش الحياة.
فى الرحلة الأخيرة إلى سيوه يكتشف هانى الجنة التى تساوى ملايين الجنيهات، التى كانت مستقر أبيه الأخير، حيث عاش ومات ودفن. وأما عن الوصية الأخيرة لسيوه فقد قصد الأب بها أن يزرع ابنه فى الأرض، وكأنما شعر أن ابنه يعيش تائها فى بلاد غريبة. لذا فقد قرر أن تكون الوصية إذا أراد الابن الحصول على التركة هى أن يكمل بناء بيت أبيه الذى عاش فيه فى الواحة وحيدا.
فى حياة بطل الرواية لم يكن له ذلك الأب الذى يأمر وينهى ويقرر بالنيابة عنه، ربما لما فيه الصالح العام، وذلك ببساطة لأنه لم يكن يعرفه. لكن الأب لم يتنازل عن حقه فى إصلاح حياة الابن حتى بعد الممات. فنتيجة لتنفيذ الابن وصية أبيه تغيرت حياته تماما. أولا عرف أن له أبا، لم يناده قط فى حياته ب (بابا).. صار الآن وبعد مماته يقولها بكل عذوبة. اكتشف أيضا أنه يعيش حياة لم يخترها ولم يردها، وكثيرا ما فكر فى تغييرها كليا لكنه لم يمتلك الوسائل، وهو الآن حر تماما فى تغييرها وقد حدث بالفعل. فى الرحلة عرف تفاصيل عن عائلته كانت مبهمة غامضة عليه.. وعلى إثر هذا الغموض كوّن كل الأفكار الخاطئة عن عائلته. فبعدما كان يكره أباه، وقد عاش عمره كله يظن أنه طلق أمه بعد أن سئمت من خيانته، اكتشف أن أمه هى التى تغار بشكل مبالغ فيه. اكتشف أن حالة أبيه النفسية التى رأه بها فى المرة الأخيرة ما كانت عن سوء فى خُلق الرجل، بل كانت جريرة الفظاعات التى رأها وعايشها فى غزو الكويت. اكتشف أيضا أن أباه لم يكن ناسيا أو متناسيا ابنه الوحيد بل قد فعل كل شيء يحميه به ويجعله فخورا ويعوضه. أيضا اكتشف موهبة حقيقية فى ابنته التى كانت تعشق الغناء، وبعدما كان يضيق عليها الخناق بدأ فى تشجيعها على المضى نحو ما تحب.
تاه هانى فى الرحلة الحلزونية، لكنه تاه ليستعيد حياته، ويرجع ما فقد من عمره الماضى ويعيش مستقبله كحي يرزق وليس كمن ينتظر الموت. رجع وعاش فى الواحة الجنة. ولا يزال يعيش هناك هانئا.