القاهرة 03 نوفمبر 2020 الساعة 01:49 م
بقلم: طلعت رضوان
يعتبر الدكتور سيد عويس (1903- 1988) أحد أبرز المثقفين المصريين فى مجال (علم الاجتماع) والبحث فى (جذور الشخصية المصرية) وتميــّـز بالموضوعية والأمانة العلمية فى كل كتبه.. وبعضها أغضبتْ المتعصبين دينيــًـا، مثل كتابه (رسائل إلى الإمام الشافعى) لأنه (بعد دراسة هذه الرسائل التى حصل عليها من إمام المسجد، بعد موافقة وزير الأوقاف) وجد أنها تــُـعيد نفس الظاهرة، عندما كان جدودنا قدماء المصريين، يكتبون الرسائل إلى الإله الشعبى (أوزيريس) ليحل مشاكلهم أو لينصفهم ممن ظلموهم.. وإذا بهذا الاعتقاد يتكرّر(بنفس الطريقة) بعد آلاف السنين.. وهذا يدل- كما كتب عويس- على أنّ الثقافة القومية المصرية، المُـتأثرة والمُـتشبعة بالحضارة المصرية، هى (ثقافة اتصال وليست انقطاع) كما حدث مع حضارات أخرى كثيرة.
وكما التزم بالموضوعية والأمانة العلمية فى كتبه.. وجدتُ هذا الالتزام فى مذكراته التى أخذتْ عنوانــًـا ثابتــًـا (ماء الحياة) وصدرتْ الطبعة الأولى عن (كتاب الهلال) والطبعة الثانية عن هيئة الكتاب المصرية- عام2017.
ومن أمثلة التزامه بأمانة الكتابة، أنه وهو يتذكر بداية عمله فى (مكتب الخدمة الاجتماعية) عام1940 تذكر مديرة المكتب السيدة (إلزا ثابت) وأفرد لها أكثر من صفحة فى مذكراته.. وعلى سبيل المثال ذكر أنه فى بداية العمل معها حدثتْ بعض الخلافات فى مفهوم العمل الاجتماعى.. ولكن هذه الخلافات ((لم تمنع أبدًا التقارب الإنسانى الذى نشأ بينى وبين هذه السيدة)) وذكر أنها بعد زواجها تركتْ العمل الحكومى وتفرّغتْ للعمل التطوعى، بالرغم من أنها أخصائية اجتماعية محترفة ومتميزة.. وذلك احترامـًـا لرغبة زوجها، الذى رفض أنْ تعمل بأجر فانتهزتْ الفرصة لتدرس اللغة العربية (قراءة وكتابة وحديـثــًـا) وكان د. عويس أحد مدرسيها.. وكانت هى تــُـساعده فى إتقان اللغة الإنجليزية.. وتمده بالكتب فى مجالات الاقتصاد والفلسفة والتاريخ.. وكلها باللغة الإنجليزية.. وفى بعض الأحيان كان زوجها يساعده فى فهم وترجمة المكتوب فى هذه الكتب.. وذكر أنّ السيدة إلزا كانت تدفع ثمن تذاكر الحفلات الموسيقية فى (قاعة إيوارت) للاستماع إلى الفرق العالمية.. وأنّ ما فعلته معه فعلته مع باقى زملائه، حيث كانت تــُـشجعهم على تذوق الموسيقى الكلاسيكية.. وعلى القراءة فى شتى مجالات المعرفة.. وذكر أنها كانت تحرص على العلاقات الاجتماعية، مثل زيارتها لبيوت الموظفين.. والاحتفال معنا بشهر رمضان والعيد.. وكانت تنقل أى مريض إلى المستشفى بسيارتها.. ومع مرور الأيام ازدادتْ الرابطة الإنسانية.. وكان أفراد أسرة د. عويس يقولون عنها أنها (ملاك للرحمة والإنسانية) وعندما مرضتْ أمه ((جاءتْ السيدة إلزا ومعها د. عبدالعزيز عسكر..ود. حليم مترى للكشف على أمى، دون أنْ يتوقع أحد منهما أجرًا منى)).
وذكر أنه فى عام1947تأسستْ (جمعة الخدمات الاجتماعية بحى بولاق) وكانت السيدة إلزا أول رئيسة لها.. وكانت هى التى أرسلتْ له رسالة.. وهو فى لندن أخبرته فيها أنه صدر قرار تعيينه فى وزارة الشئون الاجتماعية بدءًا من إبريل1951..واعترف بأنّ الفضل فى هذا التعيين يرجع إلى د. محمد صلاح الدين (وزير الخارجة) والسيدة إلزا. وبجانب مساعداتها المعنوية، فإنه- أثناء إقامته فى أمريكا عام1953للدراسة، فقد ((تكفــّـلت السيدة إلزا بمصاريف أسرتى لمدة ثلاثة شهور)).
أما عن انطباعاته عن (قاهرة العشرينيات وحتى الستينيات) فذكر أنه وأبناء جيله ((كنا لانــُـفرق بين المسجد والكنيسة)) فكلها بيوت الله.. وذكر أنه بعد تخصصه فى علم الاجتماع.. وبعد بحثه فى جذور الشخصية المصرية، بدأ يهتم بالحضارة المصرية، فقرأ كثيرًا فى علم المصريات.. وأنه كل يوم جمعه يزور المتحف المصرى.. وفى معظم صفحات الكتاب أمثلة كثيرة على عمق إيمانه بالتعددية.. ونبذ الأحادية.. وذكر أنه يعتبر الدكتور لويس عوض ((أحد أساتذتى الذين أثــّـروا فى تفكيرى عندما أتأمل الواقع الذى أعيش فيه)) وأضاف أنّ لويس عوض كان مثقفــًـا عالمـًـا ذا بصيرة نافذة.. وتبنى الماركسية.. ولكنه لم يكن شيوعيــًـا، بينما كانت زوجته شيوعية.. ولها نشاط فى الحزب الشيوعى البريطانى.. ومما يؤكد إيمان د. عويس بالتعددية أنه كتب إنّ العالم البوذى مثله مثل العالم المسيحى والعالم المسلم.. إلخ حيث أنهم ((ينحنون تقديرًا للتجربة العلمية)) وذكر أنّ الصراع الفكرى لا يكون فى محيط العلوم الإنسانية، أما فى محيط العلوم المادية، فالناس فى كل بقاع الأرض، على اختلاف جنسياتهم وعقائدهم، لا يختلفون مع ما يمس حياتهم الطبيعية.. وعن تقدير أساتذة الجامعات فى أوروبا للطلبة، ذكر أنه عندما كان الطالب (نيوتن) فى سن السادسة والعشرين، فإنّ أستاذه طلب من إدارة الجامعة أنْ يجلس تلميذه على الكرسى الذى كان يجلس عليه.. وذلك اعترافــًـا منه بما ((حققه نيوتن من نتائج فى بحوثه التى أجراها.. وهو فى ريعان شبابه.. وكانت بحوثه لها بصمات على تقدم العلم.. واتساع آفاقه.. وإذا كانت دائرة المعارف البريطانية قد خلدتْ نيوتن، فإنها خلدتْ أيضــًـا أستاذه.. وذكر أنه من حــُـسن حظه أنّ أستاذه (جون لويس) فعل معه ما فعله أستاذ نيوتن، حيث كان (جون لويس) له الفضل فى اهتمامه بتلميذه (سيد عويس) ويــُــشجعه على القراءة.. ويــُـرشده على كتب معينة تــُـساعده على تنمية قدراته البحثية.. وأهداه رواية (سبارتاكوس) تأليف الروائى الأمريكى (هوارد فاست) و(جون لويس) هو الذى أرشده لموسوعة الغصن الذهبى تأليف (جيمس فريزر) وكتاب فجر الضمير تأليف (برستد) وذكر فرحته عندما علم أنّ القردة الأنثى ترعى أطفالها مثل الإنسانة، سواء بالمشاعر أو الطعام والنظافة.. وقال ((كان هذا انتصارًا على الجهل الذى كنتُ فيه.. وعن علم الفلك وقدرته على غزو الفضاء، تساءل: كيف ستكون الحياة على القمر؟ وكيف سيكون الصيام فى رمضان؟ والصلاة والحج كيف تؤدى هاتان الفريضتان؟
وذكر أنه تأثر بكتاب طه حسين (الفتنة الكبرى) وتعلم منه الكثير.. وأنّ هذا الكتاب شجعه على البحث عن كتب التراث العربى/ الإسلامى، ليعتمد عليها كمصادر أصلية كما فعل طه حسين.. الذى كتب عما فعله الخليفة عثمان الذى طلب من حفظة القرآن أنْ يكتبوا ما حفظوه من آيات، حتى لا يضيع القرآن من الصدور خاصة وأنّ كثيرين منهم ماتوا فى الحروب القبلية.. وجاء إلى عثمان عدد من المصاحف، اختار منها واحدًا وأمر بحرق الباقى.. وكان من رأى طه حسين أنه كان يتمنى لو أنه لم يأمر بحرق باقى المصاحف، لأنه لو أبقى عليها.. وتركها كما هى، لكان فى ذلك فائدة كبيرة، لأنها ستــُـتيح للباحثين وللعلماء البحث والتنقيب حول أسباب الخلافات بين المصحف الذى أبقاه عثمان.. وعرف باسمه.. وبين باقى المصاحف الأخرى.. وأنّ طه حسين وصلتْ به الأمانة العلمية أنه ذكر أنّ باحثين آخرين رأوا أنّ الصواب ما فعله عثمان، لأنه لوكان قد ترك باقى المصاحف، فإنّ هذا سيؤدى إلى تزايد الفتنة بين القبائل العربية.
وذكرد. عويس أنّ من فضائل حزب الوفد أنه (مع تفاقم الصراع بين مصر والمحتل البريطانى) خاصة فى عام1951، فإنّ الحكومة الوفدية أمرتْ العمال المصريين الذين يعملون فى المعسكرات البريطانية ((بترك العمل)) كما طالب النحاس باشا من المقاولين المصريين الذين يتعاملون مع الجيش البريطانى.. والذى يحتل مدن القنال، بفسخ العقود.. وهوما التزم به المقاولون المصريون، مما يدل على وطنيتهم.. وأنهم انحازوا لوطنهم (مصر) وضحوا بمصالحهم الخاصة.
واعترف د. عويس أنه استفاد كثيرًا من الثقافة الأوروبية.. واكتشف صدق ما كتبه طه حسين عن تقارب مصر(ثقافيــًـا) مع دول حوض البحر الأبيض المتوسط.. كما اعترف بفضل دور محمد على الذى حكم عام1905 وعمل على (تحديث مصر) وأنّ الخديو إسماعيل أكمل مسيرة التحديث.. وعن خصائص شعبنا التى أدركها عويس خلال الفترة من الثلاثينيات حتى نهاية الستينيات، ذكر أنّ المصرى يتميزبقدرته على ((نسيان الأسية)) ويؤمن بالتسامح.. وعلى لسانه دائمــًـا تعبير بالغ الأهمية والعذوبة ((صافى يا لبن)) وبالرغم من ذلك فإنّ الأميين المصريين (بعد خروج الإنجليز من مصر) أبدعوا مثلا شعبيــًـا قالوا فيه ((عدوزمان مالوش أمان))
وذكر د. عويس معلومة ربما لا يعرفها كثيرون.. وهى أنه بعد نجاح الجيش فى حكم مصر كان عبد الناصر (مجرد مدير مكتب اللواء محمد نجيب) وعن قرار (التطهير) الذى أصدره مجلس قيادة (الثورة) فإنّ د. عويس لاحظ أنّ زملاءه كانوا يتكلمون بالهمس، وفى حالة خوف أنْ يصيبهم الدور بالرغم من أنه ليس لهم أى نشاط سياسى.. وأضاف: وكنتُ أعيش فى هذا المناخ دون أنْ أفهم أى شيء.. وبدا لى الأمر كأننى أشاهد مسرحية فكاهية هزلية.. وفى هذا المناخ الذى انتشر فى معظم الوزارات، انتشر الرعب.. والأسوأ أنه قد انتشر معه النفاق للرؤساء.. وكذلك للزملاء الذين عــُـرف عنهم أنهم يكتبون (تقارير للمسئولين الكبار).
وذكر أنّ الشعب المصرى فوجئ يوم10ديسمبير1952 بقيام (مجلس الثورة بإلغاء دستورعام1923..كما تقرّر حل الأحزاب والجمعيات.. ومصادرة أموالها مع استثناء جماعة الإخوان المسلمين.. وفى فبراير53صدرالدستورالمؤقت الذى منح سلطة السيادة لمجلس (الثورة) وبصفة خاصة التدابير التى يراها ضرورية لحماية (الثورة) وبالتالى أصبح للمجلس الحق فى ممارسة السلطتيْن التنفيذية والتشريعية.. كما نشأ تنظيم (هيئة التحرير) للتعبيرعن سلطة الحكم الجديدة.. وليسد الفراغ بعد حل الأحزاب.. وأصبح جمال عبد الناصر ((هو اليد الحديدية)) بعد أنْ مجرد مدير مكتب محمد نجيب.. وأصبح الصاغ عبد الحكيم عامر قائدًا عامًـا للقوات المسلحة برتبة لواء بدلا من محمد نجيب.
وعن تجربته عندما كان يستعد لنيل درجة الدكتوراه، ذكر د. عويس أنّ البروفسور (موريس) فضلا عن علمه الغزير كان أبــًا رحيمًـا لى.. ولم يكن وحده الأب الكريم الذى احتضننى.. وأنا التائه الغريب فى محيط الحياة فى مدينة بوستن.. وإنما كانت السيدة الفاضلة زوجته (دورثى) الأم الكريمة الرحيمة التى كانت تستقبلنى، عندما كان زوجها يدعونى لتناول الغداء أو العشاء فى بيتهما.. وكأننى أحد أبنائهما.. وقال عويس: إننى وأنا أكتب مذكراتى وقد بلغتُ سن السبعين، أذكر بالحب والاحترام هذا الرجل.. وعندما أشكره على ما قـدّمه لى كان يقول لى: لا تشكرنى يا سيد. إنك تستحق كل ألوان التشجيع.. وهو ما يقوله كل أساتذتك لأنك طالب مجد ومهذب. بل إنّ هذا الأستاذ كان يعتبره مثل أى (صديق) وذكر أنّ كثيرين من الأستاذة والطلبة الأمريكان كانوا يدعونه ليحضر معهم الاحتفال بعيد الكريسماس.. وكان كبار السن يعاملوننى كابن لهم.. وذكر أنه عندما شاعتْ مقولة أنّ (مصر عربية) كتبتُ أنّ (مصر أفريقية)) وأنّ ((مصر أقرب إلى أفريقيا من العرب)) وأنّ الدستور المـُـزمع إعداده عام1956 يجب أنْ ينص على أنّ ((مصر دولة أفريقية)) وأنّ لا اللغة العربية.. ولا الدين الإسلامى يكفيان لتكون مصر عربية)) (ص241).