القاهرة 28 اكتوبر 2020 الساعة 09:38 ص
الارتحال الهوياتي لدى الشباب العربي المهاجر
د. هويدا صالح
سؤال الهوية أحد أكثر الأسئلة إلحاحاً في الفكر العربي الحديث, وهو سؤال أزمة عميقة ولّدت قلقاً عظيماً, فالشعوب تنشغل بسؤال الهوية كلما دخلت في أزمة، والمجتمع العربي منذ سنوات يمر بهذه الأزمة العميقة، وقد زادت هذه الأزمة بعد ما يُسمّى بـ "ثورات الربيع العربي" وخروج كثير من الشباب العربي، من دول الصراع أو حتى من الدول التي تعاني من أزمات اقتصادية طاحنة باتجاه الغرب (أوربا في أكثر الأحوال)، بات يطرح سؤال الهوية بقوة لدى هذا الشباب.
وحين يستقر الشباب العربي في هذه المجتمعات الجديدة ذات الهوية الثقافية المغايرة ونمط الحياة المختلف، يبدأ في طرح أسئلة من قبيل: من أنا، وما هويتي الثقافية؟ وما الطريق الأمثل لأعيش حياة سوية في هذا المجتمع الجديد؟ هل أتنازل عن هويتي القديمة (الضعيفة بالضرورة) لصالح الهوية الجديدة (القوية بالضرورة أيضا)، أم أظل متمسكا بهويتي الأصلية وأعيش منعزلا عن المجتمع؟ هذه الأسئلة باتت مشروعة، بل وملحة لشباب انسلخوا عن مجتمعاتهم وأتوا محملين بكثير من الخيبات وكثير أيضا من الطموحات والآمال.
لا يختلف اثنان على أن الهوية الثقافية هي مجموعة السمات والخصائص التي تنفرد بها الشخصية في مجتمع ما وتجعله متميزا عن غيره من المجتمعات الأخرى، وتتمثل تلك الخصائص في اللغة والدين والتاريخ والتراث والعادات والتقليد والأعراف وغيرها من المكونات الثقافية المختلفة. وهناك من يُعرِّف الهوية الثقافية والحضارية لأمة من الأمم بأنها القدر الثابت، والجوهري والمشترك من السمات والقسمات العامة التي تميز حضارة هذه الأمة عن غيرها من الحضارات والتي تجعل للشخصية الوطنية أو القومية طابعًا يتميز به عن الشخصيات الوطنية والقومية الأخرى.
ورغم أن الهوية الثقافية لها تصور ثابت لدى الشعوب، إلا أنها لا تزيد عن كونها نموذج اجتماعي تكونت تصوراته في الماضي، وأن الحاضر ما هو إلا محاولة إدراك هذا المثال وتحقيقه، ورغم ذلك تظل الهوية الثقافية دينامية، فهي سمات وخصائص تم اكتسابها، ويمكن التعديل عليها باستمرار، فهي ليست أبدا ماهية ثابتة، أي أن الهوية قابلة للتحول والتطور، ويمكن النظر إلى الهوية في صورتها الديناميكية على أنها مجموعة من المشتركات الجماعية التي يتبناها مجتمع ما، في زمن محدد للتعبير عن القيم الدينية والاجتماعية والجمالية والاقتصادية والتكنولوجية والتي تشكل في مجموعها صورة متكاملة عن ثقافة هذا المجتمع.
لذا يقع الشباب العربي المهاجر إلى الغرب في ذلك الصراع الوجودي بين هوية قديمة تلح عليه بكل عناصرها وخصائصها وسماتها التي تركزت في اللاوعي الجمعي الخاص به، وهوية جديدة بدأت تتخلق، وتحاول عبر قوة وجودها وعبر آليات هذا الوجود أن تُحدِث إزاحة لعناصر قارة في اللاوعي الجمعي لهؤلاء الشباب، فيحتدم الصراع، لكن هذا الصراع له تجليات، قد يكون صراعا داخليا نفسيا يكمن في أعماق هذا الإنسان المهاجر عن هويته إلى هوية جديدة تتخلق هنا والآن، فيحدث هذا الصراع النفسي شرخا غير عادي في بنية الوعي لدى هذا الشباب العربي، ويدفعه ذلك للانزواء والتقوقع داخل هويته العميقة، فلا يقوم بالاندماج مع المجتمع، ولا يتفاعل مع الهوية الجديدة، ولا يشعر أنه مواطن لهذا المجتمع الجديد الذي سعى حثيثا لينتمي إليه، حتى أنه قدّم كل غالٍ ورخيص من أجل أن يرحل إلى هذا المجتمع الجديد بهويته المفارقة، تاركا هويته الثقافية الشرعية وراءه، لكنه في حقيقة الأمر لم يتركها كلية، بل ارتحلت معه في لاوعيه، وسكنت روحه العميقة.
وقد يأخذ هذا الصراع الداخلي شكلا آخر أشد خطرا، ليس على الفرد المهاجر فقط، بل على المجتمع الجديد الذي ارتحل إليه، فالصراع الداخلي الكامن في الذات المأزومة المسكونة بهويتها القديمة قد ينقلب إلى صراع دموي، فتنطلق في هذه المجتمعات المستضيفة لهم موجات من العنف الجسدي ما بين دهس وإطلاق نار وتفخيخ بالقنابل وغيرها من وسائل القتل تحت ما يُسمّى بالارهاب الإسلامي، حيث الملمح الأبرز في هوية شبابنا العربي هو الدين وليس الهوية القومية العربية.
لكن السؤال الذي يجدر بنا مناقشته هل هؤلاء الشباب الذين ارتحلوا بأفكار راديكالية وقيم وأعراف ماضوية رسمت لهم صورة ذهنية عما رأوه هويتهم هم المسئولون وحدهم عن هذا الصراع السوسيوسيكولوجي الذي تحول إلى صراع دموي؟!
ألم تشارك هذه المجتمعات التي تغنّت دوما بقيم الديمقراطية والمواطنة وباحترام الخصوصية الثقافية للهويات الفرعية التي تكوّن مجتمعاتها بمزيد من العزلة لهذه المكونات الثقافية المأزومة تحت دعاوى مثل : الارهاب الإسلامي والإسلاموفوبيا؟ ألا يمتلك الغرب صورة ذهنية قادمة من الوعي الكولونيالي، فالعربي بالنسبة لهم إن هو إلا بدوي يركب ناقة ويسوق أمامه عنزاته ويمتلك جواري وحريما، فهذه الصورة التي صدرها بين قوسين المستشرقون عن العرب ما تزال تراودهم، وكأن لم تمر الشعوب بحداثة وما بعد حداثة، وكـأن لم يكن هناك عولمة جعلت العالم قرية صغيرة كما يقولون. كما أن دعم العالم الغربي غير المشروط لربيبتهم إسرائيل جعل العالم العربي ينظر إلى الغرب كعدو ظالم، ساهم في ظلم شعب وشرد أهله من أجل دولة المغتصب الصهيوني، إضافة للغزو الأمريكي أوربي للعراق وتدميره جعل التيارات الدينية المتشددة بدءًا من القاعدة وانتهاءًا بداعش تورّث المنتمين إليها كراهية المجتمعات الغربية قاطبة، وحدث خلط في ذهنية هؤلاء المتشددين بين الحكومات والشعوب، فمن يفجر استادا لكرة القدم أو صالة للأفراح لا يفرق كثيرا بين ترامب وميركل وماكرون وغيرهم من السياسيين وبين الشعوب البريئة. وهذه الممارسات الارهابية العنيفة من هؤلاء المتشددين ساعدت على استشراء قيم الكراهية ومعاداة الآخر المختلف في الغرب؛ مما أذاق المهاجر العربي المرارات كلها؛ لأن الشعوب الغربية لا تفرق في تعاملها العنصري بين المهاجر الذي فرّ من فاقة تعانيها بلاده وبين ارهابي اعتنق أفكارا متشددة تستبيح دم الآخر.
إذن ما الحلول التي يمكن أن يقدمها المفكرون ومتخصصو الدراسات السوسيوثقافية والدراسات ما بعد الكولونيالية لهذه الجماعات المأزومة التي ارتحلت بأزماتها في مجتمعات غريبة، وجعلت من هذه الأزمات قوقعات تعيش فيها دون انفتاح حقيقي على المجتمع الذي يعيشون فيه، ودون تمثُّلٍ حقيقي لقيم المواطنة والمدنية؟
على هؤلاء جميعا عبء الاشتغال على المشتركات الإنسانية بين الشعوب، البحث عن هذه المشتركات التي تُجمّع ولا تفرق، التي تجعل من الشباب العربي قادرا على التعايش مع الآخر، شريك الوطن الجديد، دون المساس بخصوصية هويته الثقافية، كما أن هذا الاشتغال على هذه القيم والمشتركات لابد أن يتمثله كذلك المجتمع الغربي، حتى يعامل مواطنيه الجدد كشباب كامل الأهلية دون عنصرية أو طائفية.
يجب أن يعتني المعنيون بالدراسات البينية السوسيوثقافية بتقديم استراتيجيات فكرية تساعد في تعزيز الهوية الثقافية والحفاظ عليها من خلال وضع تصور لدور الهوية الثقافية في مواجهة التحولات العالمية.