القاهرة 27 اكتوبر 2020 الساعة 08:13 ص
بقلم: أسماء هاشم
في الجامعة، كان أستاذ الجيولوجيا يحدثنا عن أعمار الأنهار، فترات شبابها وعنفوانها وشيخوختها واضمحلالها.. يقول يظل النهر فتيا عفيا مادام يفوق ما ينحته على ما يرسبه.
مرحلة النحت المعروفة بالفيضان هي مرحلة عنفوان النهر الكبرى، سيشيخ تدريجيا وعلى مدار السنين الطوال يعجز عن دفع الرواسب فيضيق مجراه ويقل عمقه ويضمحل..
قد يجدد النهر شبابه بعد فترات طويلة. يحدث ذلك حين يثور على الرواسب بعنف ويطرحها بعيدا في فيضان عنيف رواسب كانت تراكمت خلال سنوات وسنوات عبر فترات سكونه واستسلامه. بعد الفيضان يواصل جريانه وهديره.
السدود تعجل بنهاية الأنهار وتقصر أعمارها حين تلجمها وتحجمها وتراكم الرواسب قي مجراه. عاما بعد عام يفوق ما يرسبه النهر على ما ينحته فيقترب من نهاية عمره، هكذا كنت أذاكر مع زميلتي النوبية رفيقة غرفة سكن الطالبات التي كتبت على هامش كراستها السدود تعجل بنهاية الأنهار . باغتني صوتها كجملة اعتراضية:
عشان كدة احنا بنكرهه
تساءلت :
مين؟
قالت:
السد العالي.
كانت جملة صديقتي النوبية كمسمار ينخر في رأسي ليوسع مكانا لهواجس عديدة.. هل سيختفي النهر قريبا؟! يقول أستاذ الجيولوجيا إن النهر قد يقضي مئات السنوات في كل مرحلة وعلى ذلك قد تطول شيخوخته ولن نشهد غيابه هكذا أطمئن روحي القلقة من هاجس غياب النيل.
مع تزايد أعداد السدود بطول مجراه كانت المخاوف تتزايد ليس على مخزون الماء بقدر ما هو خوف من فقد عزيز يعيش بيننا. غزل تفاصيل حياتنا. لا يمكن أن يكون النيل كائنا حيا يعيش بين الناس مثلما يعيش بيننا نحن الجنوبيين. نحبه حتى قي أوقات جموحه حين كان يهجر أجدادي من بيوتهم ليحتموا بالجبل مفسحين له المكان ليلقي بحمولته بعيدا عن المجرى ليخصب الأرض وينبت الزرع. حتى النساء العاقرات والراجيات امتلأ أرحامهن يغمرن أجسادهن بمياهه في ليال قمرية معلومة والطفل الصغير في صباحية ختانه يزف أيضا بالزغاريد إلى النهر ليباركه ويمنحه بعضا من خصوبته.
لم يكن النيل رمزا لكل خصب وفقط هو أحد الآلهة الرحيمة التي نلجأ إليها حين يغادر أحبتنا للعالم الآخر . أذكر بعد موت جدي كانت مراسم العزاء تمتد لأربعين يوما يتخللها عدد من الطقوس أبرزها يوم الغُسل. ولا يقصد به غُسل المتوفي ولكن غسل ملابسه التي كان يرتديها والمحفوظة في خزانات الملابس . يكون ذلك في اليوم الثالث بعد الوفاة.
أذكر .. قادت عمتي الموكب الحزين المكون من القريبات والجارات وانضم لهن عدد من نساء النجع مر الموكب قرب بيوتهن استحين وانضممن للموكب المتجه غربا ناحية النيل .. انحدرت خطاهن على الطريق الترابي الممهد بين الزراعات وحين وصلن للنيل بدات عمتي في غمر ملابس أبيها في ماء النيل مرة ومرة وتبعتها القريبات كل تمسك بقطعة وتغمرها في الماء مرات ومرات وكأنما تتضرع للنهر أن تغسل خطاياه من الدنيا.
غابت تلك الطقوس واختفت تلك العادات وظلت تفاصيلها في ضفيرة علاقتنا بالنيل الذي اكتسب قدسيه خاصة، حتى إننا لا نملك مخيلة لتصور الحياة بدونه فهل ينتفض العجوز على كل السدود ويلقي حمولة رواسب السنين بعيدا عن مجراه ليستعيد شبابه ويواصل جريانه وغزل تفاصيل حياتنا بوجوده.