القاهرة 27 اكتوبر 2020 الساعة 08:11 ص
عاش الذكريات: صلاح صيام
في حياه كل مبدع ذكريات جميلة أحيانا وحزينة غالبا.. هى تبقي عالقة فى الذاكره لتذكرنا بكل ما هو مؤلم و جارح.. الشاعر الثائر بابلو نيرودا يقول عن المذكرات إنها تسجيل لصور فوتوغرافية، أما الذكريات فهي تسجيل لوحات تشكيلية من صنع فنان نحت الألم في قلبه الكثير، والاقتصادي الشهير السيد أبو النجا كتب سيرته الذاتية بعنوان ذكريات عارية، وهو عنوان دال وموح.. وفي مذكرات خالد محيي الدين أراد أن يطلق عليها اسم "ذكريات خالد محيي الدين" إلا أن الكاتب الكبير رفعت السعيد أقنعه بأن العنوان الأنسب هو ”الآن أتكلم"
فى هذه السلسلة نحاول الغوص فى أعماق المبدعين.. نستخرج ذكرياتهم المحفورة فى الذاكرة والتى لا تختفى بفعل الزمن أو أشياء أخرى).
واليوم نواصل اللقاء مع الناقد والمبدع محمود قاسم وحكايته عن "أم محسن"..
اسمها عائشة أحمد بدوي، حسب التخمين فهي من مواليد 1913، تزوجت عام 1929، لتنجب ابنها الأكبر عبد المحسن في العام التالي.. حكت لنا أنها أنجبت من أبينا محمود أربعة عشر بطنا، رحل منهم تسعة أبناء في سن صغيرة.. بدت بهذا الإنجاب المتعدد كأنها تود أن تلحق بالدنيا وأن يترك لها زوجها أكبر قدر من الذكريات؛ لكنني لا أعرف كيف كانت ستعيش وأولادها بهذا المبلغ الصغير لو أبقى الله كل الأبناء.. رحل زوجها.. وهو في التاسعة والأربعين، وكانت في الثالثة والأربعين.. هي من عائلة لم تعرف الطلاق أو الانفصال ومكتوب على النساء أن يعشن علي الذكرى وتربية الآبناء..المهمة المقدسة لكل بنت من العائلة أن تتفانى من أجل أسرتها.. جاءت أسرتها من قرية تفهنا العزب غربية، وعاشت في الإسكندرية في حي كرموز الملاصق لعمود السواري، والمقابر الذي يتم دفننا جميعا فيها.. علمتنا أمنا مثلما تعلمت من أهلها أننا جميعا يجب أن تجمعنا مقابر واحدة، مهما أخذتنا البلاد سفرا وعودة.. قام كل أفراد العائلة ومن يناسبهم بالاستقرار في الثغر، ولم تخلع أمي رداء القرية إلا في الخمسينيات. منحتها السماء الكثير من القدرات، فرغم أنها تجهل القراءة لكنها حفظت القرآن الكريم من تلاوة الإذاعة، وفي سنواتها الأخيرة كانت تطلب منا أن نجيب عليها بالمعرفة التي تلقيناها من الكتب، لكن كل منا كان منشغلا بأمور حياته وتركت أثرها على بناتها، فقد مات زوج كل من فتحية ونعمة، وظلت كل أرملة منهما مخلصة لزوجها بعد رحيله.. ماتت الكبرى فتحية بمرض مشابه وهي في الثامنة والثلاثين، وكانت غزيرة الإنجاب مثل أمها.
لن أنسي أبدا ما فعلته أم محسن لابنها الأصغر مصطفى الذي أصيب بشلل الأطفال في مقتبل حياته، وكان ذلك سببا أن المستشفيات كانت المكان الأكثر قربا من أمي وهي تسعد لعلاج ولدها يحفها الأمل وقد طردت اليأس دوما من قاموسها الخاص، حتى طاب بحمد الله وهي تصحبني معها وأنا في سن صغيرة في دورات مكوكية لا تنتهي.
علمتني أمي بدون نصائح مباشرة أننا في بيت قرآن كريم، لا يجب أن ندخل رزقا إلى البيت إلا إذا كان مقابل مجهود حقيقي مخلص.. مازلت أعمل ألف حساب لها وأنا أفعل أي شيء.. وهي التي علمتنا أن نترحم على من ماتوا منا وسبقونا.
الأم لا تموت مهما رحل جسدها.. إنها باقية معنا في كل حياتنا، وطيفها يحلق من حولنا دون أن تكون لملامح هذا الوجه علامات محددة.. بالنسبة لي هي أم محسن، وهو اسم كل الأمهات اللائي أعرفهن.. هي التي امتزجت فيها الأزمنة والأماكن، فرغم الأزمنة والأماكن التي شاهدتنا، فإننا ذهبنا إلى هناك وطيفها يحلق معنا.. أشعر دوما أنها هي التي انتشلتني من كافة المخاطر التي كادت أن تمسني وأن ذلك تم بأساليب عديدة، منها الدعاء الذي كانت تستقبل به اندثار ظلمة الليل وشروق ضوء النهار لكل أبنائها، وأيضا لكافة المقربين إليها.. صارت تؤدي دورها كأم تجاهنا جميعا حتى اللحظات الأخيرة.. تجيد أعمال المنزل وتحيك لنا ملابسنا الجديدة، ولا تميل إلى الجاهز، ولا مانع أن ترتق بعض الملابس إذا اشتدت الأزمات، وإذا قامت بزيارات أقارب أو أبناء، فإنها تحتفظ في حقيبتها بما يشبعها دون أن تكون في حاجة إلى أطباق أهل البيت.. اكتشفت الآن أنني ورثت هذا العادة، وأن من يعرفونني يعلمون أن حقيبتي الخاصة بها مثل هذه الأطعمة.
أمي ليست معي فقط كلما احتفل الناس بعيد الأم.. أمي متوغلة في داخلي، وهي ليست كيانا مفردا، بل هي كل أفراد أسرتها وعائلة زوجها. إنها جدار حياتي، ولها كل التحية، وإنها كل أمهات الدنيا في كل تاريخ ومكان.. تجمعت في شخص واحد اسمه "أم محسن".