القاهرة 20 اكتوبر 2020 الساعة 09:50 ص
بقلم: د. هبة سعد الدين
انفرد الفنان القدير الذى رحل عن دنيانا منذ أيام وودعته الملايين بالحب والشعور بالافتقاد لزمن جميل.. محمود ياسين؛ بالعديد من الرصاصات طوال مشواره السينمائى وانفرد وحده بإطلاقها، فها هو فتى المسرح الأول "الغول" البورسعيدى يطلق أولى رصاصاته على الصورة المعتادة للمسرحى الذى قد لا ينجح بنفس الدرجة على الشاشة السينمائية، ويطوع من صوته الرخيم العميق فى الأداء ليستمتع مشاهد السينما بنبرات صوته الغائرة فى القدم وكأنه فى لحظة صوت التاريخ أو اللا وعى أو الضمير والحارس الذى يراقب ليرى ويأتينا بما رأى.
ويستخدم الرصاصة الثانية ليطلقها على صورة فتى الشاشة الأول.. واستطاع مع أبناء جيله أن يمنحها وجهاً آخر مع تطور الأحداث والمجتمع ليجعله فرداً يتميز بقدر من الوسامة لا تطغى على شخصيته، ويعود ليطلق الرصاصة على صورة ممثل المسرح الكلاسيكى الذى قد لا يستطيع رسم ابتسامة على وجه مشاهد السينما، ثم يحتفظ بأخرى فيحرر بها المسافة ما بين العمل الروائى والفيلم السينمائى ليكون بطلا لمجموعة من الأعمال تحولت إلى لوحات أدبية سينمائية بحواراتها وشخصياتها وتحولاتها.
ورصاصة أخرى يطلقها على مفهوم الفتى الأول الوسيم، فيختار أن يصبح عاملا أو معلماً أو جامع القمامة وغير ذلك من الشخصيات التى تبتعد عن الصورة النمطية للفتى الوسيم أو المثقف الذى يدرك قضايا مجتمعه.
وها هى رصاصاته تتوالى لتوثق وتعبر وتنثر عطر الانتصارات. ثمانية أفلام هى دليلنا لمشاعر المجتمع وتحولاته من الهزيمة للنصر؛ والتى بدأها بفيلم "أغنية على الممر" ثم "بدور" و "الرصاصة لا تزال فى جيبي" و "الوفاء العظيم" و "الظلال في الجانب الآخر" ثم "حائط البطولات" و "الصعود إلى الهاوية" و "فتاة من إسرائيل"؛ أفلام تجولت ما بين حرب الاستنزاف والشعور بمرارة الهزيمة وما تبعها من تحولات.
ولم يكتفِ بذلك، فجاء برصاصة جديدة ليطلقها على صورة المريض النفسى المعتادة فيمتعنا بأفلام "سونيا والمجنون" لمحمود دياب وحسام الدين مصطفى و "أين عقلى"لإحسان عبد القدوس وعاطف سالم، و "الوهم" لأحمد صالح ونادر جلال؛ مساحة معاناة إنسانية نفسية متفردة.
ثم اتجه بطاقته التمثيلية نحو التليفزيون والإذاعة والمسرح، حتى صرنا على يقين أن السينما لم يعد له فيها مكان، فيفاجئنا برصاصة جديدة لا تزال فى جعبته فيمتعنا مرة أخرى ببريق العمر والمشوار.
محمود ياسين، فتى المسرح صاحب الصوت الرخيم أجاد تصويب رصاصاته فرصد المجتمع المصرى بتحولاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومشاعره الإنسانية، وجعل أفلامه "علامة" إشارات لكل تلك التحولات.
وعندما التقى المخرج حسين كمال، فى رائعته "شىء من الخوف" عام 1969 كان "الوعد" الذى جعله على لقاء أكثر قوة مرة أخرى مع الفنانة شادية وحسين كمال وبطولة فيلم "نحن لا نزرع الشوك" عام 1970، تلك البدايات القوية سينمائياً مهدت الطريق له، ليكون الوحيد فى جيله الذى يشارك النجمات بطولات الأفلام، فها هو يشارك ماجدة فى "أنف وثلاث عيون" لإحسان عبد القدوس وحسين كمال وفاتن حمامه فى "الخيط الرفيع" لإحسان عبد القدوس وبركات و "أفواه وأرانب" لسمير عبد العظيم وبركات، و "حبيبتى" لعبد الحى أديب وبركات ونادية لطفى فى "على ورق سوليفان" ليوسف إدريس وحسين كمال.
لقد ترك لنا محمود ياسين تراثاً سينمائيا راصداً لتطورات السينما المصرية ومجتمعها بالإضافة إلى أعماله التليفزيونية والإذاعية والمسرحية والغنائية عندما شارك المطربة وردة بالأداء الشعرى وغنى بصوته الرخيم للأطفال للعربة "زوبه" فى مسلسل "غداً تتفتح الزهور"، لكن فيلميه "الجزيرة " الجزء الأول لمحمد دياب وشريف عرفه، و"الوعد" لوحيد حامد ومحمد يس، يظلان علامة ونقطة تحول ليس فقط لقيمتهما الفنية ولكن لتلك المساحة التمثيلية التى استطاع فيها "يس" أن يقول للجميع بكل وضوح إن "الكبار" فقط يمكنهم دائماً أن يتألقوا، فاستطاع أن يظل عطر أدائه متواجداً فى هذين الفيلمين ومنحهما بريقاً ياسينياً خاصاً، بنفس القدر الذى جعل المشاهد العادى يتذكر نصوصاً "أدبية" لروايات خلدتها السينما بصوت وأداء محمود ياسين.