القاهرة 20 اكتوبر 2020 الساعة 09:13 ص
تأليف: راي برادبري "Ray Bradbury"
ترجمة: صلاح صبري
"ماذا ستفعلين لو علمتِ أن هذه هي آخر ليلة للعالم؟"
"ماذا سأفعل؟ هل أنت جادٌّ؟"
"أجل".
"لا أعرف.. لم أفكر في ذلك من قبل." قدمت له إبريق القهوة الفضي ووضعت الفنجانين في طبقيهما.
صب قليلا من القهوة. في الخلفية، كانت البنتان الصغيرتان تلعبان بالمكعبات على سجادة الصالة في ضوء مصابيح الكيروسين الخضراء، بينما عَبِق نسيم المساء برائحة القهوة المنعشة.
قال: "حسنًا.. فلنفكر منذ الآن في ذلك".
"لا بد أنك لا تعني ذلك".
أومأ. (قاصدًا بلى)
"حرب؟"
"هز رأسه" (نافيًا)
"ليست القنبلة الهيدروجينية ولا الذرية؟"
"كلا".
"ولا الحرب الجرثومية؟"
قال وهو يقلب قهوته ببطء محدقًا في سوادها: "لا شيء من هذا على الإطلاق.. ولكن فَلنَقُل إن الأمر ليس سوى طي كتاب".
"أظن أنني لا أفهم".
"ولا أنا في الحقيقة.. إنه مجرد إحساس.. أحيانًا يرعبني.. أحيانًا أخرى لا أشعر بالرعب مطلقًا.. بل بالطمأنينة". ألقى نظرة على البنتين اللتين يتألق شعرهما الذهبي في ضوء مصابيح الكيروسين، ثم خفض صوته وتابع قائلاً: "لم أقل لكِ أي شيء.. حدث ذلك لأول مرة منذ حوالي أربع ليال".
"ماذا؟"
"رؤيا رأيتها.. حلمتُ أن كل شيء سينتهي، هاتفٌ قال لي ذلك.. صوت غريب لا يمكنني تذكره.. ولكنه صوت على أية حال.. وقال إن كل شيء هنا على وجه الأرض سيتوقف.. لم أشغل بالي كثيرًا بذلك عندما استيقظتُ في صباح اليوم التالي.. ولكنني ذهبت إلى العمل وظل ذلك الإحساس يلازمني طوال اليوم. شاهدت ستان وِلِس ‘Stan Willis’ وهو ينظر من النافذة قرب العصر، وسألتُه ‘فيم تفكر؟’ فقال لي ‘رأيتُ حلمًا ليلة أمس’.. ومن قبل حتى أن يخبرني، كنت أعرف ما هو.. كان بإمكاني أن أخبره.. ولكني تركته يحكي لي، واستمعتُ إليه".
"كان نفس الحلم؟"
"نعم.. قلت لـ‘ستان’ إنني أيضًا حلمتُ.. لم يندهش.. إنما بدا مرتاحًا في الحقيقة.. ثم أخذنا نتمشى بين المكاتب بلا هدف.. لم نخطط لذلك.. لم نقل ‘هيا نتجول’.. رحنا نتجول وحسب.. وفي كل مكان، كنا نرى زملاءنا يحملقون في مكاتبهم أو أيديهم أو ينظرون من النوافذ ذاهلين. تكلمت مع بعضهم.. وكذلك فعل ستان".
"وكلهم حلموا؟"
"الجميع.. نفس الحلم بالتمام والكمال".
هل تعتقد أنه حلم صادق؟
"نعم.. لم أشعر بهذا اليقين من قبل مطلقًا".
"ومتى سيتوقف؟ أقصد العالم".
"بالنسبة لنا سيتوقف في وقت ما من الليل.. ثم بعد ذلك، وبينما يهبط الليل في أنحاء العالم، ستتوقف المناطق المتقدمة أيضًا.. سيستغرق الأمر أربعًا وعشرين ساعة حتى يتوقف العالم كله".
جلسا برهة دون أن يلمس أي منهما قهوته. ثم رفع كل منهما فنجانه ببطء وأخذ يحتسي وهو يحملق في وجه رفيقه.
تساءلت: "هل نستحق هذا؟"
"ليست مسألة نستحق أو لا.. كل ما هنالك أن الأمور لم تسِر على ما يرام.. لاحظتُ أنك لم تناقشي الموضوع.. لماذا؟"
قالت: "أظن أن لديَّ سببًا".
"السبب نفسه الذي يظنه جميع من في المكتب؟"
أومأت ببطء قائلة: "لم أكن أريد أن أقول أي شيء.. لقد حدث ذلك بالأمس.. وأخذت نساء الحي يتحدثن عنه اليوم فيما بينهن.. لقد حلمن.. ظننتها مجرد صدفة" ثم التقطت صحيفة المساء وأردفت قائلة: "لم تذكر الصحيفة أي شيء عن ذلك".
"كلا.. الجميع يعرفون.. فما الداعي إذن".
تناول الصحيفة، ورجع بظهره وهو جالس في مقعده محملقًا في البنتين ثم فيها، وتساءل قائلاً: "خائفة؟"
"كلا.. كنت دائمًا أظن أنني سأخاف.. ولكنني لست خائفة".
"وأين غريزة حب البقاء التي لا يكف العلماء عن الحديث عنها؟"
"لا أعرف.. لا ينفعل المرء كثيرًا إذا رأى أن الأمور منطقية.. وما يحدث الآن منطقي.. كان لا بد أن يحدث بسبب طريقتنا في الحياة".
"لم نكن سيئين بدرجة كبيرة.. أليس كذلك؟"
"كلا.. ولا صالحين بدرجة كبيرة.. أظن أن هذه هي المشكلة.. لم نكن أي شيء بدرجة كبيرة سوى أنفسنا.. بينما كان كثيرون غيرنا مهمومين بأن يكونوا تنويعات كثيرة من كائنات بشعة".
كانت البنتان تتضاحكان في الصالة مُلوِّحتين بأيديهما وهادمتين المنزل المصنوع من المكعبات.
"طالما ظننتُ أن الناس سيصرخون في الشوارع في موقف مثل هذا".
"لا أعتقد.. الناس لا يصرخون حيال الشيء المعقول".
"أتعرفين؟ لن أفتقد شيئًا سواكِ والبنتين. لم أحب المدن قط، ولا السيارات، ولا المصانع، ولا عملي ولا أي شيء آخر غيركن. لن يوحشني شيء عدا أسرتي، وربما تغيرات المناخ، وكوب الماء المثلج في الحر، ورفاهية النوم.. مجرد أشياء بسيطة في الواقع. كيف تطاوعنا أنفسنا على الجلوس هنا والتحدث هكذا؟"
"لأننا لا نملك أن نفعل شيئًا خلاف ذلك؟"
"فعلاً.. فلو كان لدينا، لكنا فاعليه الآن.. أظن أن هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يعرف فيها كل إنسان بالتحديد ما سيفعله في أثناء الليلة الأخيرة."
"أحاول أن أتخيل ما سيفعله الجميع الآن.. وهذا المساء.. وفي الساعات القليلة القادمة".
"الذهاب لحفل موسيقي.. الاستماع للراديو.. مشاهدة التليفزيون.. لعب الورق.. أخذ الأطفال للأسرَّة.. ذهابهم هم أنفسهم للنوم.. كما يفعلون دائمًا".
"بطريقة سوف يتباهون بها.. كعهدهم دائمًا."
"لسنا سيئين كلنا".
جلسا لحظة، ثم صب لنفسه فنجانًا آخر من القهوة، وتساءل قائلاً: "لماذا تفترضين أنها الليلة؟"
"بلا سبب".
"لماذا لا تكون ليلة أخرى في العشر سنين الأخيرة أو في القرن الماضي.. أو منذ خمسة قرون.. أو عشرة؟"
"ربما لأن ليلة 30 فبراير سنة 1951 لم تحدث في التاريخ من قبل.. وها قد حدثت الآن وتلك هي الحقيقة.. لأن هذا التاريخ أهم من أي تاريخ آخر.. لأن هذه هي السنة التي يكون فيها كل شيء كما هو في كل مكان بالعالم.. لهذا، فهي النهاية".
"هناك قاذفات تعبر المحيط الليلة من كلتا الضفتين ولن ترى الأرض مرة أخرى".
"ذلك بعض السبب".
قال: "حسنًا.. ماذا نفعل الآن؟ نغسل الصحون؟
راحا يغسلان الأطباق بعناية ويرصانها بنظام شديد. في الثامنة والنصف، أخذ الطفلتين للنوم، وقبلهما متمنيًا لهما ليلة سعيدة، ثم أوقد الضوء الخافت تاركًا باب الحجرة مواربًا.
خرج الرجل ووقف لحظة وهو يمسك غليونه وينظر خلفه، ثم همس قائلاً: "أتساءل.."
"ماذا؟"
"هل يجب إغلاق الباب تمامًا أم من الأفضل تركه مواربًا بعض الشيء لكي نستطيع أن نسمع إذا نادت إحداهما؟
"هل البنتان تعرفان.. هل ذكر أحد أمامهما أي شيء؟"
"كلا بالطبع.. كانتا حتمًا ستسألاننا".
جلسا، وراحا يطالعان الصحف ويستمعان لبعض المقطوعات الموسيقية من الراديو، ثم جلسا معًا أمام المدفأة وهما يشاهدان جمرات الفحم المشتعلة، بينما كانت الساعة تدق مشيرة إلى العاشرة والنصف، ثم الحادية عشرة، ثم الحادية عشرة والنصف. كانا يفكران في جميع الناس في العالم الذين قضوا المساء، كل منهم بطريقته الخاصة.
بعد فترة، خاطب زوجته قائلا: "حسنًا.." ثم انهمكا معًا في قبلة طويلة.
"كان كل منا يحمل الود للآخر على أي حال".
"ترغبين في البكاء؟"
"لا أظن".
راحا يجوبان البيت، وأطفأا المصابيح، وسكَّرا الأبواب، ثم ذهبا إلى غرفة النوم ثم وقفا يبدلان ملابسهما في ظلمة الليل الباردة. نزعت مفرش السرير وطوته بعناية فوق أحد الكراسي كعادتها، وأزاحت الأغطية للوراء.
قالت: "الملاءات باردة ونظيفة ولطيفة جدًّا".
"أنا مرهق".
"كلانا مرهق".
دخلا في السرير واستلقيا".
قالت: "انتظر لحظة".
سمعها وهي تنهض خارجة إلى الجزء الخلفي من البيت، ثم ترامى إلى مسمعه صوت باب يغلق بهدوء. عادت بعد لحظات. قالت: "نسيت صنبور المطبخ مفتوحًا فذهبت لأغلقه".
شيء ما في هذا الأمر جعله ينفجر ضاحكًا.
شاركته الضحك مدركة الشيء المضحك الذي فعلته. توقفا عن الضحك بعد برهة، ثم أخلدا للنوم.
همس بعد لحظة: "ليلة سعيدة".
همست قائلة: "ليلة سعيدة يا عزيزي...".