القاهرة 20 اكتوبر 2020 الساعة 09:07 ص
عاش الذكريات: صلاح صيام
في حياة كل مبدع ذكريات جميلة أحيانا وحزينة غالبا.. تبقى عالقة فى الذاكرة لتذكرنا بكل ما هو مؤلم وجارح.. الشاعر الثائر بابلو نيرودا يقول عن المذكرات إنها تسجيل لصور فوتوغرافية؛ أما الذكريات فهي تسجيل لوحات تشكيلية من صنع فنان نحت الألم في قلبه الكثير.. والاقتصادي الشهير السيد أبو النجا كتب سيرته الذاتية بعنوان "ذكريات عارية" وهو عنوان دال وموح.. وفي مذكرات خالد محيي الدين أراد أن يطلق عليها اسم "ذكريات خالد محيي الدين" إلا أن الكاتب الكبير رفعت السعيد أقنعه بأن العنوان الأنسب هو "الآن أتكلم".
(فى هذه السلسلة نحاول الغوص فى أعماق المبدعين، نستخرج ذكرياتهم المحفورة فى الذاكرة والتى لا تختفى بفعل الزمن أو أشياء أخرى.
واليوم موعدنا مع الناقد والمبدع محمود قاسم، الذى يقول:
"أم محسن".. هكذا كنت أحب أن أناديها، مثلما كان يناديها الناس من حولها، ولا يمكن أن أتحدث عنها في مقال واحد، فهي مجموعة من الكتب والمجلدات والمراجع.
هي العمر كله، حتى وإن رحلت إلى بارئها يوم السادس من أكتوبر عام 1976, هي موجودة دوما في أعمالي الروائية، على قيد الحياة.. من حسن الطالع أنني لم أحضر جنازتها ولم أرهم يوارونها التراب، فهي مازالت بالنسبة لي فوق السرير نفسه في المستشفي الأميري بالإسكندرية، ولدي دوما الإحساس وأنا أمر إلى جوار المبنى من ناحية شريط الترام أنها هناك في الغرفة نفسها بالدور السابع، وإنني لو صعدت إلى هناك لوجدتها راقدة على السرير نفسه كي تتلقاني بلهفة سبق أن قابلتني بها، وهي تسمع صوتي على باب المنزل رقم "27" حارة الفهد بكرموز، وهي تصرخ من أعماقها.. تنادي باسمي وتجهش بحرقة شديدة غير مصدقة أن ابنها الذي غاب في الحرب دون أن ينزل أجازة قد عاد إليها حيا.. راحت تعانقني بحرقة، وأنا أبتسم (الآن أبكي وأنا أستعيد تلك اللحظات).. لقد حولت الأمومة إلى مشاعر عاطفية متوقدة.. كانت تتأملني دوما وأنا في أجازات الجيش.. في تلك الفترة كانت الأغنية الأكثر شيوعا هي " خليك هنا خليك بلاش تفارق".. وألتزم الصمت.. فأنا عدت من البحر الأحمر، لكن الكثير من زملائي خاصة رفاق الكلية والسلاح ظلوا هناك بلا عودة حتى الآن إلى أمهاتهم.
أمي التي بكت في لقائنا. كان يجب أن أكتب عنها وعن رحيلها وأنا موظف في الشعبة القومية لليونسكو في مجلة حائط علقتها على جدران الشعبة؛ مثلما كنت أفعل في كلية الزراعة. تهافتت زميلاتي -وأغلبهن أمهات- الموظفات للقراءة والبكاء على الحب الذي جمعني بأمي وأنا أرثيها. إنه نفس البكاء الذي لا يتأخر في مداعبتي كلما كتبت عنها.. لم تبتعد المرأة عني رغم السنوات، فقد كنت أنفذ تعليماتها بالحذافير كل يوم وأنا أخرج إلى العمل في ساعة مبكرة قبل أن تستيقظ المدن وسكانها. كنت أرسل إليها الفاتحة وكل الأشخاص الذين كانوا يربطونني بها.. زوجها العامل البسيط الذي لم يترك لها سوى معاش بسيط لا يزيد عن اثنى عشر جنيها و متناثرات أخي كانوا كافين تماما لتربية أبنائها الخمسة، حتى إن كبيرها عبد المحسن قد تخرج بعد عام واحد من رحيل أبيه، كما أن الفاتحة تذهب أيضا إلى جدي أحمد بدوي والد أمي. وهو الشيخ حافظ القرآن الذي ترك لنا مكتبة كبيرة من كتب التراث وتعليمات لا نزال نمشي عليها.. وأيضا إلى أرواح شقيقات الأم وأشقائها.. ومع الزمن صارت قائمة الراحلين والراحلات القريبين منا تتسع وتذهب عبر الأثير إلى أرواحهم متصورا أن تلك الأنفاس التي غادرتنا موجودة في مقابرهم.