القاهرة 13 اكتوبر 2020 الساعة 11:03 ص
بقلم: طلعت رضوان
فى تقديمه لروايته (أوراق زمردة أيوب) ذكر بدر الديب (1926- 2005) أنّ أوراق زمردة صاحبته تسع سنوات.. ونظرًا لأنّ المبدع جعل الرواية على لسان بطلته (زمردة) فكأنه قد تقمص شخصيتها.
فى الفصل الأول حرصتْ زمردة على تسجيل تاريخ ما تكتبه، فذكرتْ شهر طوبة عام 1639 (وفق التقويم المسيحى) فى قرية دميرة وفى نفس الوقت فإن هذا التقويم يشير إلى الفيضان.. وهو فى جنوب مصر شهر (مسرى) الذى يــُـخلص الأرض من الجفاف.. وزمردة حريصة على تدوين خواطرها، لدرجة أنها قالت: لابد أنْ أكتب.. وأنّ الكتابة تصنع الأفق.. وقالت إنه عندما تبلغ المرأة سن الخمسين، تتغير كما تتغير الحياة، كانت أعوامى تكفينى.. ولكننى أرى المرض فى الصفحة المصقولة، التى تعكس وجهى الأسمر كالنيل، عندما لا يفيض.. وعندما يفقد الغرين، ثمّ تساءلتْ: لماذا فعلوا ذلك بالنيل؟
زمردة دكتوره فى الأدب الأمريكى.. وعملتْ بالجامعات الأمريكية عدة سنوات.. ولما عادتْ لموطنها فى حى الزيتون بالقاهرة، شعرتْ بالألم لأنها ستموت فى (بيت فارغ) فماذا تقصد؟ هل تقصد أنه فارغ من الذكريات؟ خاصة وأنها تتمنى أنْ يعود ابنها دانيال إلى مصر، ويترك أميركا.. ودمها يصرخ أنْ يعود.. وأنه الأفق الذى تراه.. وتشعر بقرب نهايتها.. كما قالت لها الطبيبة التى تتابع مرضها.. وعلى الفراش شعرتْ أنّ خلايا دمها تتغير.. وتنهدتْ وقالت: ما أغرب المورفولوجى، وأطلقتْ على الألم (ديمومة) تتجه نحو الموت.. وتساءلتْ: لماذا يتكسر الدم الأبيض الذى يسرى فى دمى؟ ولماذا أنا بالذات؟ وهل هذا تجديف يا ربى؟ وأضافتْ: أليس الدم الأبيض هو سر الوجود والعدم معــًـا؟
زمردة تخدمها السيدة (تفيدة) التى تضغط عليها لتناول الدواء. لقد كرهتْ الأدوية.. وتفكر فى الاختيار بين (طريق الموت) أو (طريق الخطية/ الخطيئة) ومشكلة الموت أنه (تخلص) وليس (خلاصا) وفكرة الخطيئة تطارها، خاصة عندما تتذكر حبيبها (كريم) وتستعيد أيام غرامهما فى شقة الزمالك التى شهدتْ خطيئتها.. ولذلك تنهض من نومها فزعة.. وفى أذنها ترن كلمات من الكتاب المقدس على لسان النبى (هوشع) أنت امرأة زنى (ســِـفرهوشع1:1-3).. وكتبتْ فى مذكراتها: أعتقد أنّ الخطيئة ليست فى أنها وقعت.. ولكن فى أنها تستمر.. وما أكثر الواقع الذى يفرض الاستمرار فى الخطيئة.. وهذا جعلها تقرأ النص مرة أخرى: لا يرجعون إلى إلههم، لأنّ روح الزنا فى باطنهم.. وهم لا يعرفون الرب)) (هوشع5: 4).
إنّ مأساة زمردة جسدتها وهى تتذكر اسم الحبيب الذى ((سمــّـم حياتى)) وابنها الذى ضاع منها.. ويرفض العودة إلى مصر..وتتحسر وهى تكتب: أنا بنت مصر.. وبنت الكنيسة المصرية.. وبنت حضارة طويلة قادرة على الاستيعاب.. ولا يكاد يكون فى العالم كله، من يماثلنا نحن المصريين فى التعايش مع الآخرين.. ووضع أنفسنا مكانهم.
أعتقد أنّ بدر الديب بهذه الكتابة على لسان زمردة، أراد توصيل رسالة للقارئ على أنّ الحضارة المصرية أبدعتْ صورة نادرة عن (قيمة الاعتراف بالآخر) ومعنى ذلك أنّ مصر الحضارة رسختْ (قيمة التعددية) ورفضتْ ونبذتْ الأحادية.
ولكن زمردة عندما عادت إلى مصر تساءلت: لماذا عدتُ.. كانت تتمنى أنْ تكون بعيدة عن مصر لكى تستشعر قدرها وقيمتها، دون أنْ تمسها أمراض وأعراض التغيرات الاجتماعية والسياسية.. واختتمتْ هذه الفقرة فى مذكراتها بقولها: لقد صبرتْ مصر طويلا.. وانتظرتْ فى صمت (ولكن زمردة لم تــُـفصح عن مقصدها من الصمت والانتظار الطويل) ولكن الجملة التى أعقبت كلامها عن الصمت والصبر كشفتْ ما يدور فى أعماقها، حيث تساءلت: هل تعود الروح من جديد؟ فى إيحاء بليغ عن الرغبة فى (عودة الروح) كما عبــّـر عنها توفيق الحكيم وهو يكتب روايته الشهيرة (عام1927) عن ثورة شعبنا فى شهر برمهات/ مارس1919.. ويؤكد ذلك أنّ زمردة أضافت: لا. لقد مضى هذا العهد.. ولم يعد مثل هذا الإيمان بالعودة يكفى. إنّ مصر تنتظر تلك اللحظة التى ستتحرّك فيها الروح (وهكذا فإنّ المبدع بالرغم من وعيه بأنّ ظروف الواقع فى نهاية القرن العشرين، تختلف عن ظروف ثورة1919) فإنه ممتليء بأمل (عودة الروح) من جديد.. ومؤمن بما عبــّـر عنه توفيق الحكيم عن (عودة الروح) فى الجزء الثانى من روايته، بنداء (حورس إلى أبيه) أوزير، حيث قال:
حورس: انهض.. انهض يا أوزير
أنا ولدك حورس..
جئتُ أعيد إليك الحياة
جئتُ أجمع عظامك..
وأربط عضلاتك.. وأصل أعضاءك..
أنا حورس الذى يُـكوّن أباه
حورس يعطيك عيونـًـا لترى.. وأذنـًـا لتسمع.. وأقدامًا لتسير.. وسواعد لتعمل..
ها هى ذى أعضاؤك صحيحة.. وجسدك ينمو.. ودماؤك تدب فى عروقك..
إنّ لك دائمًا قلبك الحقيقى.. قلبك الماضى..
الميت: إنى حى.. إنى حى (من كتاب الخروج إلى النهار).
وكان تعليق توفيق الحكيم ((وحورس ليس إلا الشباب يُعيد الحياة إلى ماضيه الميت، نعم هو الشباب الذى يكوّن أباه الوطن)).
وزمردة بالرغم من توجسها من التغيرات التى حدثتْ فى مصر، فإنها سجــّـلتْ فى مذكراتها: عندما أتحدث عن مصر كأننى أتحدث عن نفسى. فلماذا كان توجسها؟ كتبتْ: إنّ مصر تعتمد على القروض.. وهذه القروض هـدّتْ اقتصادنا تماما.. وظهرتْ البوادر مع بداية الستينيات، بالتطبيق الخاطئ للاشتراكية.. وأنّ البيانات والتصريحات الرسمية عن أرقام الموازنة العامة شيء.. والواقع شيء مختلف.. وتساءلتْ: هل كان الخطأ فى التطبيق؟ أم خطيئة من نوع أضخم فى حق الواقع والحقيقة؟ وبالرغم من ملاحظاتها عن أخطاء التطبيق الاقتصادى، فإنها كانت مؤيدة للإصلاح الزراعى.. ومعارضة لمعظم أفراد أسرتها الذين تأثروا من مصادرة أراضيهم.. وآمنتْ بعبدالناصر بالرغم من فساد التنظيم الأوحد التابع للسلطة (الاتحاد الاشتراكى).
كانت صدمتها فى النظام الجديد الذى حكم مصر بعد يوليو52.. وهو النظام الذى آمنتْ به، عندما طرق بابها (ضابط مباحث) واستجوبها عن أسباب عودتها من أمريكا؟ وماذا تنوى أنْ تفعل فى مصر؟ ولماذا تركتْ ابنها فى أمريكا؟ شرحتْ للضابط المجال الذى تنوى العمل فيه.. وأنها ستتقدم للجامعات المصرية للتدريس.. وأنّ ابنها دانيال سيكمل دراسته فى أمريكا.. واختتمتْ حديثها مع الضابط بأنها تسعى وتتمنى أنْ تكون مفيدة لوطنها مصر.
زمردة كانت صادقة عندما قالت للضابط إنها ستتقدم للعمل بإحدى الجامعات المصرية.. ولكن بعد أنْ قدّمتْ أوراقها، تعثرتْ فى دهاليز البيروقراطية.. وتحويلها إلى أكثر من مسئول، الذى يحيلها إلى مسئول أكبر. وشعرتْ بما يشبه الغثيان.. وهى تدور بين مكاتب المسئولين، فكانت- لكى تــُـجـدّد طاقتها على الاحتمال- تبتسم وهى تتذكر بطل فرانز كافكا.. وعبثية ما تعرّض له فى المكاتب الحكومية.
وفى مرحلة تالية تحوّل توجسها إلى الشعور بالرعب، عندما تأكدتْ من الرقابة على بريدها الشخصى.. وأنها هى نفسها (مراقبة) ضحكتْ ضحكة يائسة عندما نصحها محاميها بأنْ تسحب أموالها من البنوك المصرية.. وأنْ تسمح له بأنْ يدرس إمكانية تهريبها إلى فرنسا أو سويسرا.
رفضتْ اقتراح المحامى بتهريب أموالها.. وأنها لن تغادر مصر حسب اقتراحه.. وبعد يوميْن عندما أطفأت نور الشقة.. وتهيأت للنوم، إذا بدقات قوية وعنيفة على الباب.. وعندما فتحتْ (تفيدة) الباب دخل ثلاثة: أحدهم بالزى العسكرى.. واثنان بالملابس المدنية.. ولم تفهم سبب الزيارة المفاجئة فى منتصف الليل، إلا ((بعد أنْ أخبرنى الضابط أنه صدر قرار بوضعى، ووضع ابنى دانيال (تحت الحراسة) وأنهم مكلفون بجرد محتويات البيت وأوراقه ومستنداته. أعطتهم زمردة مفتاح الخزانة وتركتهم يتجوّلون فى الشقة.. وكانت تشعر بضحكة داخل أعماقها.. وهى ترى تحركاتهم.. كأنما يؤدون أدوارًا فى مسرحية هزلية.
كانت المفاجأة التى أبدعها المبدع، أنّ قائد هذه الحملة البوليسة هو حبيبها أو عشيقها (كريم) الذى نظر إليها وقال لها: لقد انتهينا.. ولم يبق إلا أنْ توقعى على بعض الأوراق.. وأثناء التوقيع شعرتْ بالرعب.. وهى تقرأ اسم والدها.. وبعد أنْ انصرف أفراد الحملة البوليسية، جفاها النوم.. وظلتْ مستيقظة وهى تتساءل: ماذا تخطط قوى البطش أكثر من ذلك؟ نظرتْ من الشباك، فرأتْ كريم -العشيق السابق- الذى كان يستخدم الأتوبيس، يركب سيارة مرسيدس.. ولم ينقذها من حالة التوهان العقلى إلا صوت المنبه الذى ضبطته تفيدة للسحور، فرسمت علامة الصليب.. وجلست لتأكل مع تفيدة.
وكتبتْ فى مذكراتها: كانت تفيدة على لسانى.. وكنتُ أكرر اسمها.. وتذكرتْ ابنها دانيال، الذى اعتقل لمدة ثلاث سنوات.. كانت تحت تأثير الحمى.. وتمنتْ لو أنها مثل (الأثير) الذى يصعب تجسيده، وهذه الرغبة فى التخفى.. كانت تسيطر عليها كلما اقترب منها القسيس لأخذ الاعتراف.. وفى كل مرة تقول له ((مش دلوقتى.. مش دلوقتى.. بعدين)) وكانت تبرر ذلك بقدرتها على مقاومة الموت.. وعلى التعبير عن غضبها.. ولأنّ ذلك المشهد كان فى (دميرة) فإنها كانت تتمنى أنْ يكون موتها فى الزيتون.
زمردة كانت تتوق للحظات (هدوء مع نفسها) حتى تستطيع التوصل إلى القرار الذى عذبها حسمه: هل تحرق مذكراتها؟ أم تتركها ليستفيد منها أفراد أسرتها، حتى يحذروا (طريق الخطية/ الخطيئة) وطال ترددها إلى أنْ اختارتْ حرق المذكرات.. ولأنها لن تثق فى أحد إلا رفيقة رحلتها فى الحياة (تفيدة) لذلك أوصتها بحرق أوراقها.. وقبل أنْ تسلمها الأوراق سمعتْ هاتفــًـا من أعماق روحها يقول: يا رب.. لماذا أسلمتنى إلى هذه البركة الآسنة، التى تسكن فى أعماقى.. وداخلها الخطيئة؟ صحيح أننى نادمة.. ولكنه ندم بلا خلاص ولا توبة. إنّ كلمات الرسل تفزع روحى.. وكأنها عذابات دميانة (دميانة قديسة، وُلدت فى أواخر القرن الثالث.. تعرضت لاضطهاد الرومان وتعذيبها.. وكانت تقول لأترابها: من كانت منكنّ تريد أخذ الشهادة على اسم المسيح، فلتقم هنا.. ومن لم تستحمل العذاب، فلتنزل سرًا.. وتهرب إلى حال سبيلها).
إنّ زمردة بعد أنّ استشهدتْ بالقديسة دميانة، تراجعت وقالت: مازالت تجاربى مع الشر لم تنته.. وحاولتْ أنْ تهدىء من ثورة روحها المضطربة فقالت: ما أكبر الفارق بين رموز الرب.. ورموز الإنسان.. وليته يفهم رموز الرب. إنّ كل حياتنا رموز لا تستقر.. وليتنا نعرفها.. كما عرفتها دميانة التى تحملتْ العذاب.. ورأتْ طريق الخلاص، بينما هى (زمردة) كما كتبتْ فى مذكراتها استسلمتْ لحماقات قلبها ونزواتها، مع الشرير الذى (جمل لها الخطيئة).
وهى على فراش الموت قالت: الخراب كان بالداخل.
حرص بدر الديب، على استخدام مفردات الثقافة المصرية.. ومن أمثلة ذلك أنّ تفيدة عندما رأتْ وجه زمرة الأصفر قالت لها: اسم الله عليكى.. فيه إيه؟ وهذه الجملة هى التى يقولها شعبنا عند الخوف على إنسان عزيز.. وكذلك صيغة السؤال بالمصرى: فيه إيه؟ وكذلك عندما قالت زمردة لسائق السيارة: سوق بسرعه شويه.. ماعندناش وقت وعاوزين نرجع قبل الضلمه، فإنّ المبدع استخدم مفردات شعبنا مثل كلمة (شويه) بمعنى: انطلق بسرعة أكثر فى حالة ترجمتها للعربى.. واستخدم (ضلمه) بديل عن الظلام.. وكذلك عندما قالت زمردة: معى عود كبريت واحد بس، فإنّ (بس) يستخدمها شعبنا كثيرًا فى اليوم الواحد.. كما فى حالة الندرة، مثل الموظف الذى يعترض على قيمة المكافأة، فيقول: دول بس.. وفى حالة الأمر الصارم، تقول الأم لطفلها الشقى: بس اسكت بلاش شقاوه.. وهكذا فى أمثلة أخرى كثيرة. أما اختيار المبدع لاسم (زمردة) واسم (تفيدة) فهذان الاسمان كانا منتشريْن أثناء (حقبة اللغة القبطية) بل إنّ اسم (تفيدة ورد فى سفر الرؤيا10: 9-11) حيث جاء فيه ((تفيدة تأكل السفر)).