القاهرة 13 اكتوبر 2020 الساعة 10:52 ص
بقلم: زينب عيسى
لا يكاد يختلف اثنان على أن أية ثقافة لا بد أن يتوافر لها عناصر نجاح وتقدم ترتبط بالأساس بجذور تلك الثقافة، وفي ذات الوقت تكون جزءا من العصر معبرة عنه ومندمجة شريطة أن يكون وراءها تخطيط وتنظيم وتنسيق في المجالات التي يمكن أن تؤثر فيها الثقافة، وذلك حتى تستطيع أن تؤدي دورها المطلوب منها على مستواها المحلي وتشارك في المشهد الدولي وتقدم رسالتها المعبرة عن حضارتها وتاريخها.
ومجال الثقافة في العالم العربي لا يزال يعاني كغيره من المجالات الأخرى من مشكلات تحد من تقدمها وهي متعددة وبمستويات مختلفة، فمنها ما يتعلق باستيراد قوالب ثقافية غربية وتقليدها بما يفسح مجالا لتواري الهوية الثقافية كما أن هناك تخبطا فكريا يتصل بغياب التخطيط المحكم والدراسة المعمقة والبحث المدقق والمعالجة النافذة. في حين أن الثقافة هي قبل كل شيء تراث يمثل -أعمق تمثيل– روح الأمة وعقلها وضميرها العام، فهي بمثابة المرآة المصقولة التي تعكس تقدم المجتمع ومدى رقيه وتطوره الإنساني، ونوعية تفكيره ومفاهيمه للأشياء، ونمط تعامله وتفاعله مع الواقع، وطريقة رؤيته إلى الحاضر والمستقبل، والحفاظ عليها كجزء لا يتجزأ من الحفاظ على الهوية بمعناها الشامل.
ويشكل انعدام التخطيط في المجال الثقافي، غياب رؤية بعيدة المدى لما يمكن ولما ينبغي أن تفعله الثقافة في وجدان الناس وما يجب أن تؤديه لهم في حياتهم الخاصة والعامة، كما يؤدي انعدام التخطيط إلى غياب نظرة علمية وثاقبة ومتكاملة عن تأثير الثقافة في المجتمع ونموه وتقدمه، وعالمنا العربي بموارده المادية الغنية وبطاقاته البشرية الكثيفة وبكفاءاته الثقافية والفكرية والعلمية العالية، يفتقر إلى أجهزة وهيئات ثقافية رسمية وغير رسمية عاملة في هذا الاتجاه، ومحروما أكثر من الحوافز التي تساعد وتشجع على العمل الجماعي المشترك في سبيل النهوض بالثقافة العربية نهوضا مبنيا على التخطيط والدراسة والبحث والتنظيم والتأطير واستثمار واستغلال الأدوات العلمية..
ومن المشكلات الراهنة التي تواجه الثقافة العربية مشكلة "الفردانية" فالجهود المبذولة في حماية الثقافة لا تخرج عن محاولات فردية من الجماعات الثقافية والمثقفين وذلك في غياب التنسيق التام مع الجهات الأخرى، كمؤسسات الثقافة الرسمية أو حتى المؤسسات الخاصة ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات المدنية التي لاشك أن لها دورا مهما في إعادة صياغة ثقافة الفرد بالمجتمع. ولقد كانت للجهود التي يبذلها المثقفون والمفكرون والكتاب والأدباء والنقاد تؤتي بعض الثمار في الماضي، بيد أن ظروف اليوم هي غير ظروف الأمس في ظل التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية العميقة التي حدثت في العقود الأخيرة ولا تزال تتمخض عنها أحداث أكثر أسهمت في تراجع الثقافة، ناهيك عن تحديات العولمة التي تفرض على الثقافة الحضور بشكل قوي بالمشهد ومحاربة تلك المخاطر عن طريق تأصيل الهوية وهي مهمة أساسية وجانب في دعم التواصل الحضاري والثقافي.
وتحتاج الثقافة في الوقت الراهن بعد أن هدأت قليلا موجة كورونا التي اجتاحت العالم إلى وضع (إستراتيجية) داخل الوطن وخارجه من خلال توجيه العمل الثقافي بالمبادرة فورا إلى التخطيط والتنظيم والتنسيق على أعلى المستويات، وبكل ما ينطوي عليه من تحولات وانعطافات فكرية وعلمية وعقلية جديدة ومتجددة، لكن قبل الولوج في خطة تطوير العمل للحفاظ على هويتنا الثقافية، فلابد أن نعي أن هناك نقاط ضعف وغيابا لكثير من الآليات التي يمكنها أن تنهض بالثقافة على سبيل المثال يجب إنشاء معاهد عالية للدراسات والبحوث الثقافية التي تتابع كل ما يستجد في الثقافة العربية والعالمية، بحيث تضع نتائج بحوثها ودراساتها بين يدي المثقف والقارئ العربي للاستفادة منها بوجه من الوجوه يجب أن تتوفر عناصر تطوير العمل الثقافي العربي كاستحداث جوائز ثقافية كبرى لأفضل الأعمال العلمية والفكرية، وكذا تدشين موسوعة ثقافية شاملة، تجمع شتات المعارف والفنون الأدبية والعلوم الجتماعية والفلسفية والفكرية وتراجم الأدباء والكتاب والشعراء والنقاد والمثقفين والمصلحين ومذاهب الأدب والنقد وفنون القصة والشعر والمسرح والمقالة والرواية من أدبنا القديم والحديث على السواء. وحماية التراث بمعناه الشامل، عبر تقسيماته من التراث الشعبي والتراث الأدبي إلى التراث الإنساني باعتباره مكوناً مهماً من مكونات شخصيتنا المستقبلية، ولا يمكن لجهود الحفاظ على التراث أن تنجح دون الاقتناع التام بأن للماضي تأثيراً مهماً على المستقبل وعلى رسم استراتيجياتنا المستقبلية حيث إن جهود الحفاظ على الثقافة المحلية كثيرة منها ما هو فردي ومنها ما هو رسمي وتكاتف الجبهتين يصب في مصلحة الثقافة في المقام الأخير.