القاهرة 29 سبتمبر 2020 الساعة 11:25 ص
بقلم: طلعت رضوان
رغم أنّ الفيلسوفة المصرية/ السكندرية (هايباتيا) تمّ اغتيالها عام415 الميلادى، إلا أنّ ذكراها ظلتْ حية فى وجدان الشرفاء من العلماء الأوروبيين ومن بعض المصريين، وكان من بينهم عاشق مصر (داود روفائيل خشبة) الذى كتب عنها كتابا من قسميْن (الأول رواية.. والثانى أقوال هايباتيا) والكتاب بعنوان (هايباتيا والحب الذى كان) ترجمة سحر توفيق- المركز القومى للترجمة- عام2010. ونظرًا لأهمية هذه الفيلسوفة فى تاريخ الفلسفة والعلم، فإنّ أكثر من مجلة علمية.. وأكثر من جمعية ثقافية تحمل اسمها فى أوروبا.. ولها موقع على الإنترنت.. وكتب عنها أوروبيون كثيرون، بل إنّ السينما العالمية أنتجتْ فيلمًا عن قصة حياتها، ومذبحة اغتيالها. بخلاف دوائر المعارف العالمية.
يأخذ القسم الأول من الكتاب شكل الرواية ويدور حول تلاميذ هيباتيا. ينسحب التلميذ حُتب من دروسها وينضم إلى دروس الكنيسة.. وينتقد الفتاة مريم ويُعارض أفكارها ويُضايقه أنها حسبما قال ((بدلا من أنْ تشرح لى ماذا يعتقد المسيحيون، تحدّثنى عما تعتقده هى)) كما بدأ التباعد بينه وبين خطيبته إيزيس عندما كان يُردد دائمًا أنّ المرأة أصل الخطيئة.. والأكثر فداحة أنه تعوّد على أنْ يتجرأ على معلمته هيباتيا ويقول لها: ((يبدو أنك لا تجدين أية مشكلة مع مريم المسيحية. فلماذا يُحزنك تحوّلى للمسيحية؟)) ردّتْ هيباتيا: ((مريم لم تختر أنْ تصبح مسيحية. لقد وُلدتْ ابنة لوالديْن مسيحييْن.. وهى تحتفظ بعقل متفتح وتسعى للفهم، بينما أنتَ وريث لثقافتيْن ثريتيْن: المصرية والهيلينية)) وفى تطور درامى لشخصيته لا يكف عن محاولة إقناع إيزيس بالذهاب معه إلى الكنيسة.. ولأنها ترفض عرضه قال لها: ((أنت تقبلين فلسفة أفلاطون كما تقدّمها هيباتيا)) ردّتْ عليه: ((نحن نجد الإلهام فى فلسفة أفلاطون ولكننا ننتقد فكره. نكشف عن العيوب فى حججه.. ونجد أخطاءً فى استنتاجاته. أما الرضوخ لسلطة لاتقبل المساءلة- سواء كانت سلطة نص أوشخص- فهويعنى أنْ نتنازل عن حقنا فى التفكيروفى الفهم.. وهذا معناه أنْ نـُـدمّر أسس كرامتنا الإنسانية. أهذا هوما تحثنى على فعله؟)) عند هذا الحد كان لابد من الفراق والقطيعة بينهما.
الثنائى الثانى مريم وستيفانوس. مريم شخصية عقلانية، فهى تعترف بأنها مسيحية وتذهب إلى الكنيسة، لأنها لا تريد أنْ تقلق والديها.. ولكنها ترى أنّ ((التقوقع المتزايد للمسيحيين يقسّم مجتمعنا إلى كتل متباينة. لم نعد شعبًا واحدًا. لقد أصبحنا عشائر منفصلة تنظر كل واحدة إلى الأخرى بارتياب متبادل وكراهية متبادلة)) كما أنها ترى أنّ الكنيسة تبنى قلعة عاتية من الفكر العقائدى الجامد، المُسلح بسلطة مؤسسية تهدد بخنق كل بحث حر.. وتجفيف منابع الفهم. خطيبها ينتقدها ويشكوها لأهلها لأنها لا تذهب إلى الكنيسة بانتظام.. وتشعر مريم بالإهانة عندما يشيع خطيبها أنّ هيباتيا أفسدتها. فإذا بمريم تعلن رأيها بوضوح: ((إذا كان دينه يعنى له الكثير فإنّ حرية الفكر تعنى لى الكثير)) ذهب خطيبها إلى أبيها وقال له: ((أنا لا أستطيع أنْ أربط نفسى بشخصية باعتْ روحها للشيطان)).
دار القسم الأول (الروائى) حول الصراع بين التعددية والأحادية. التعددية التى تعشق الحياة بتنوعها ولا ترفض الآخر المُختلف، ولكنها (التعددية) ترفض التطابق معه. بينما الأحادى لا يقبل إلا بتطابق المثلثات بشرط أنْ يكون (مثلثه) هو المعيار، وإذا جاز تطابق المثلثات فى الهندسة، فهو لا يجوز مع البشر. ففشلتْ نماذج الحب المؤيدة لقتل العقل الحر.. وكان التلاميذ فى هذا القسم الروائى من الكتاب، هم الكواكب الصغيرة التى تدور حول شمس المعرفة (معلمتهم هيباتيا) التى تربّص لها الأحاديون الكارهون لحب الحياة، المعادون للعقل الحر، فتم تدبير مذبحة اغتيالها بتحريض من البطريرك كيرلس.. وكما تخلص اليونانيون المتعصبون من سقراط، فعل المتعصبون المسيحيون ما هو أبشع مع هيباتيا، حيث مزقوا ثيابها وجروها عارية ومزّقوا جسدها بشقفات الخزف.. وأحرقوا الجسد الممزق وختموا المشهد الدامى بحرق كتبها.
وعن تلك الجريمة كتب كثيرون من المؤرخين عنها، من بينهم (ول ديورانت) فى كتابه (قصة الحضارة) المجلد الأول –الجزء الثاتى– ص 184) وكذلك جورج ساتون، وإدوارد جيبون وبرتراند رسل.. ومن المصريين د. توفيق الطويل ود. زكى نجيب محمود، بخلاف ما أبدعه الروائيون والشعراء الأوروبيون عن قصة حياتها واغتيالها.. ووصل اهتمام العالم المتحضر بهذه الفيلسوفة المصرية، لدرجة أنْ أصدرتْ جامعة إلينوى الأمريكية مجلة فلسفية اسمها (هيباتيا) كما تنتشر فى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية الجمعيات الثقافية والمجلات الفلسفية التى تحمل اسم هيباتيا.. كما أنتجتْ إسبانيا فيلما بديعا عن قصة حياتها.
وكانت هيباتيا ذات جمال أسطورى، ورغم ذلك رفضتْ كل عروض الزواج وفضلت التفرغ للعلم والفلسفة.. وكتبتْ عنها دائرة المعارف البريطانية أنها جمعت بين التواضع والجمال.. والقدرة العقلية فجذبتْ عددًا هائلا من التلاميذ.. وكان من بين تلامذتها أساتذة وفلاسفة، يأتون من أكثر من دولة ليستمعوا لمحاضراتها، من بينهم الفيلسوف اليونانى (دمثيوس) والعالم (سينسيوس) الذى اعترف بفضلها عليه فى تثقيفه.. وأنها شرحت له مؤلفات أرسطو وأفلاطون وبعض العلوم الطبيعية مثل الفلك والميكانيكا والرياضيات.. وكانت تكرّس فى دروسها للحب الروحى لا الجسدى. وقال عنها مُعاصروها أنها كانت تتربع على ((قمة الأسرار الفلسفية) وكتب عنها د. إمام عبد الفتاح إمام أنها أنجزتْ حسب ما كتب سويداس فى معجمه ثلاثة كتب: شرح لكتاب ديفونطس السكندرى فى علم الحساب، والثانى شرح لكتاب بطليموس (المجموع الرياضى) والثالث شرح لكتاب (قطوع المخروط) لأبولونيوس البرجى . كما أنها اخترعتْ (البلانسفير) وهى خريطة ذات ثلاثة أبعاد لنصف الكرة السماوية، أو الآلة الفلكية القديمة المسماة الأسطرلاب.. والاختراع الثانى هو جهاز قياس الوزن النوعى للسوائل، وهو نوع من الهيدرومتر (مجلة عالم الفكر الكويتية- المجلد 22 – العدد 3، 4 – يناير/ مارس/ إبريل/ يونيو1994).
وعن مشهد اغتيالها كتب د. إمام عبد الفتاح إمام ((اعترضتْ جماعة من رهبان صحراء النطرون الذين قضوا فى الصحراء سنوات طويلة يصارعون قوى الشر -كما يقولون– ويديرون معركة صراع باطنى ضد شهوات الجسد، اعترضوا عربة هيباتيا بإيعاز من كبيرهم كيرلس، فأوقفوها وأنزلوا الفيلسوفة الشابة الجميلة، ثم جروها إلى كنيسة قيصرون، حيث تقدمتْ مجموعة من هؤلاء الرهبان وقاموا بنزع ثيابها حتى جرّدوها من ملابسها لتصبح عارية.. وتقدّم بطرس قارئ الصلوات فى الكنيسة وقام بذبحها وهى عارية.. وقد أمسك بها مجموعة من الرهبان ليتمكن قارئ الصلوات من ذبحها. ثم عكف الرهبان على تقطيع جسدها مُستمتعين بما يفعلون. ثم راحوا يكشطون اللحم عن العظام بمحار حاد الأطراف. ثم أوقدوا النار وقذفوا فيها بأعضاء جسدها.. وهى ترتعش بالحياة كما كتب الفيلسوف رسل، حتى تحول الجسد إلى رماد.. وهم يتحلقون حوله فى مرح وحشى شنيع على حد تعبير ديورانت.. ويرى د. إمام أنّ الرهبان ((عجزوا عن قمع شهوات الجسد، ولما كان يصعب الوصول إليه، فإنه يسهل عليهم تمزيقه)) (المصدرالسابق).
القسم الثانى من كتاب د. داود خشبة يشتمل على ما سجلته التلميذة مريم من محاضرات الفيلسوفة والعالمة هيباتيا (اعتمد المؤلف فى صياغته لفلسفة هيباتيا على مراجع عديدة أرّختْ لحياتها وفلسفتها) قالت هيباتيا: إنّ تدمير كل المُسلمات ضرورى لتحرير عقل الإنسان، ومن عبودية المفاهيم المسبقة.. ولكى نعيش يجب أنْ نعمل ونفكر، على أنْ تكون الأفكار غير ممتنعة أمام الفحص والهدم إنْ لزم الأمر. إنّ خطأ أفلوطين هو محاولة إضفاء الثبات على رؤى لا يمكن التعبير عنها إلا عن طريق مجاز شارد أو حجة تبيد ذاتها بذاتها، بينما أفلاطون يُعلمنا ألاّنركن إلى الوهم، وهم أنكَ وضعتَ يدك على الصدق التام.. وكان هيراقليطس يرى أنّ كل الأشياء فى العالم فى حالة تحول بلا توقف.. ولا يُمكن لصيغة محددة من الفكر أنْ تدّعى لنفسها صلاحية حاسمة وقطعية (وبالتالى) لا يوجد ما يُسمى الحقيقة النهائية. عقلنا الخلاق وحده هو الحقيقى.. وكان سقراط يرى أنّ الفكر هو حياتنا.. وهو كينونتنا الحقة.. وفى ذات الوقت أنّ كل فكر (مُحدّد ونهائى) غارق فى التناقض والزيف.. وأنّ العقل الفاعل وحده هو الذى يكتشف ما فى فكره الخاص من تناقض، فيهدم كل صياغات هذا الفكر. الفلسفة هى إعادة اكتشاف بلا نهاية لحقيقتنا. إنّ عقلنا الخلاق هو توكيدنا المحب لكل كينونة إيجابية.. هو حقيقتنا وقيمتنا الحقة.. وهو كل ما نعرفه من (الحقيقة) وما عدا ذلك هو أسطورة.. وإذا نسيت أنها لا شىء إلاّ أسطورة فإنها تتحول إلى خرافة مهلكة. نحن البشر فى الأساس كائنات عاقلة.. وهذا هو امتيازنا ومجدنا (وفى نفس الوقت) مأساتنا. نحن نعيش مشاعر الحب والصداقة ومشاعر الحسد والكراهية، وكلها من صنعنا نحن. وهنا يأتى الخطر. فبينما القيم والمفاهيم التى تُولد مشاعر طيبة، تُوسع حياتنا وتثريها، فإنّ القيم والمفاهيم التى تولد مشاعر سيئة تقلّص وتفسد قدراتنا الإبداعية.. وهكذا فإنّ تفكيرنا هو مجدنا وهو عدونا.. وهذا هو السبب فى أننا ينبغى أنْ نبنى عوالم مثالية بلا توقف. فبدونها تكون إنسانيتنا ناقصة.. وينبغى أنْ ندمر عوالمنا المثالية بلا توقف (أيضًا) فعندما نتوقف عن إدراك أنها من إبداعنا نكون بلا عقل مهما بلغنا من الذكاء. إنّ اعتبار أحد أساليب التعبير هو التمثيل الصحيح للحقيقة جنون.. وإذا كنتُ أعترف بأننا فى حاجة إلى الأسطورة، فلابد أنْ نعترف أنها أسطورة. إننى مقتنعة بأنّ كل بحث عن الحقيقة خارج الروح الإنسانية هو بحث عقيم ووهم..
وبهذا المعنى أجد أنّ الفلسفة هى أخص وأسمى حياة للإنسان. الفلسفة هى ممارسة فعل العقل. إنّ كل مقولة من المقولات التى قدّمتها يمكن أنْ تـُدحض، لأنّ كل صياغة محددة للفكر.. وكل ظهور محدد للكينونة لابد أنْ يزول.
وقالت أيضًا:
تمثل أسطورة إيزيس وأوزيريس جوهر المأساة والمجد لكل وجود متناه. الوجود المتناهى يُحتم بالضرورة أنْ يُدمر ليُبعث مرة أخرى فى شكل جديد.. هذا هو الدرس الذى نقرأه فى البذرة التى تُدفن لتبعث مرة أخرى فى حياة جديدة.. ولابد أنّ البشر أدركوا هذا الدرس الذى نجده فى كل الثقافات ممثلا فى أساطير مختلفة. إنّ قصة القيامة المسيحية تنتمى لتراث موقر. إنها صيغة من موت أوزير وقيامته.. وهذا ما أسميه مبدأ الزوال. إننا نجد تناظرًا مع التمثيل المسيحى ل (اللوجوس الأزلى) متجسدًا فى جسد فانٍ.. وأظن أنّ المؤلف المسيحى الذى قدّم هذا التمثيل كان يحاول التعبير عن رؤية ميتافيزيقية.. ومن المؤسف أنّ ذاك التعبير الشعرى أهدر على يد عقليات ضحلة بحيث تحوّل إلى دوجما.. والآن يتخاصمون ويتقاتلون حول ما إذا كان هذا الجسد واحدًا أو إثنين. أو إثنين هما واحد. أو واحدًا هو إثنان.. إلخ، دون أنْ يعلموا أنّ كل تلك الصياغات يمكن أنْ تكون مجازات ملهمة عندما تقبل كمجازات.. ولكنها تتحول إلى بهتان يُورث بلادة العقل عندما نغفل عن البطلان الكامن فى المجاز. إذا لم نهدم الفرضيات، يتم تثبيتها كخرافة مهلكة.. وإنْ لم نحرر أنفسنا من أسر الأسطورة نتعفن.. وإذا أخطأنا فهم الأسطورة.. واعتبرناها واقعًا تتحول إلى صَدَفة ميتة. أعترف أنّ أفكارى مبهمة مثل كل تفكير نظرى يحتاج دائمًا للفحص.. وإذا نسينا هذا نقع فى الوهم المُهلك. الفلسفة دعوة للتأمل.. ولا تقدّم إجابات نهائية.. وإذا كنتَ تبغى الإجابات فلتذهب إلى اللاهوتيين: كل إجاباتهم صادقة صدقا مطلقا حتى عندما تكون متناقضة تناقضًا مطلقا. إننى لا أقدّم إجابات.. وإنما أغريكم بالنظر داخل عقولكم. وحتى التعبير الفلسفى إذا افترضَ الثبات يتحول إلى خرافة. استمتعوا بأفكار أفلوطين. ولكن لا تأخذوا صياغاته بجدية وبدون تفكير. لا تحوّلوا فلسفته إلى دين. الدين يصبح ضارًا لو تمأسس.. والفلسفة ضارة لو توهمتْ الثبات.
دفعنى للكتابة عن كتاب د. داود خشبة ثلاثة أسباب: 1- أنه جمع بين الإبداع الروائى الذى جسّد التعصب الدينى دراميًا، مع التوثيق التاريخى لحياة الفيلسوفة هيباتيا.. 2- ترجمة سحر توفيق السلسة والمُمتعة.. 3- أنّ قصة حياة هيباتيا تستحق المزيد من الكتاب.. وأنّ درس اغتيالها جمع بين التعصب للدين والعداء للمعرفة. فعندما دخلتْ المسيحية مصر آمن بها كثيرون عانوا من اضطهاد الرومان 250سنة، لدرجة تقديمهم للوحوش فى الملاهى الكبرى.. واستمر الاضطهاد والقتل إلى عام 313 بصدور إعلان ميلان الذى نصّ على (التسامح الدينى). واستقر الوضع أكثر بعد أنْ اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية. ثم أصبحتْ هى الديانة الرسمية لكل الدول الخاضعة لروما.
كان المنتظر أنّ من عانى الظلم ينشأ لديه وجدان يرفض أنْ يكون ظالمًا.. ولكن ما حدث هو العكس، إذْ مارس الأساقفة النصوصيون الاضطهاد ضد الذين رفضوا اعتناق المسيحية.. وظلوا على إيمانهم بالديانة القديمة.. كما شمل الاضطهاد بعض الطوائف المسيحية، وتحطيم التماثيل باعتبارها (وثنية) وتحويل المعابد إلى كنائس، وتحطيم معبد السرابيون، وهو تحفة معمارية.. وكانت قمة التصاعد المأساوى اغتيال الفيلسوفة هيباتيا.
هيباتيا (370- 415) فيلسوفة مصرية (سكندرية) وعالمة رياضيات. وهى ابنة (ثيون) أستاذ الرياضيات فى متحف الإسكندرية.. وبالرغم من ذلك قتلها التعصب الدينى.. وذاك هو الدرس: اغتيال الفيلسوفة والعالمة التى يعتقد بعض المؤرخين أنّ العالِم كوبرنيكوس تأثر بنظريتها فى علم الفلك.. وأنّ الروائى الإنجليزى تشارلز كنجزلى كتب رواية عنوانها (هيباتيا) وكتب عنها الأديب الفرنسى Gille Menage فى كتابه (الفلاسفة والنساء) قصيدة قال فيها ((لابد لكل من يشاهد ويتأمل بيتك الطاهر/ الخالى تمامًا من كل زخرف أو زينة/ أنْ ينشغل بأمر الثقافة/ حقًا لقد انشغلتِ أنتِ بالسماء/ هيباتيا.. أيتها المرأة الحكيمة/ لغتك عذبة.. ونجمك متألق فى سماء الحكمة)). وذكر د. إمام عبدالفتاح أنّ المؤرخ المسيحى (سقراط) كتب عنها أنها ((بزّتْ أهل زمانها من الفلاسفة، عندما عينتْ أستاذة للفلسفة بالإسكندرية، حيث هرع لسماع محاضراتها عدد كبير من الناس من شتى الأقطار النائية.. وكان الطلاب يتزاحمون ويحتشدون أفواجا إليها من كل مكان.. وكانت الخطابات توجّه إليها باسم الربة Muse أو الفيلسوفة.. وعندما كانت هيباتيا تشرح مذهب أفلاطون أو أرسطو، كانت قاعة درسها تكتظ بأثرياء الإسكندرية وأكابرها)) وذكر المؤرخ جيبون أنّ كيرلس كان يشاهد بعين الحقد والحسد ذلك العدد الضخم من جمهورها على باب أكاديميتها (د. إمام عبد الفتاح إمام- مجلة عالم الفكر الكويتية- مجلد 22- عدد 3، 4- يناير/ مارس/ إبريل/ يونيو94).. وكتبتْ عنها الشاعرة (ماريا ذليسكا) ((لن يقدر الموت يومًا/ أنْ يُميتها/ إنها قائمة هناك.. بسكونها/ الموت لا يقدر أنْ يميت مثلها/ الموت يقدر فقط/ أنْ يُبعثر هذا الزمن/ بعوالمه المرتجفة/ أما هى ستظل دائمًا هى)) (نقلا عن د. مرفت عبد الناصر- لماذا فقد حورس عينه- دار شرقيات عام 2005- ص 82).
ألا تذكرنا مأساة هيباتيا بمأساة المفكر الفارسى ابن المقفع الذى كان مصرعه شبيهًا بمصرعها، حيث تقطيع جسده.. وهو ينظر إلى أعضائه.. وهى تلقى فى النار. وبالنهاية المأساوية لعبد الحميد الكاتب الذى قتله العباسيون بوضع طست محمى على رأسه.. وبمحنة الإمام أبى حنيفة الذى رفض أوامر ابن هبيرة الذى طلب منه تأييد تصرفه بقتل أحد الأشخاص.. فقال أبوحنيفة ((تأمر أنت بقتل إنسان ظلمًا أو مصادرة ماله وأختمه أنا.. هذا لن يكون أبدًا)) وكانت النتيجة أنْ أمر ابن هبيرة صاحب الشرطة بحبس أبى حنيفة.. وأنْ يُضرب كل يوم عشرة أسواط.. وفى عهد أبى جعفر المنصور تم جلد الإمام مالك.. وفى عهد الرشيد كاد الإمام الشافعى أنْ يقتل لأنه اختلف مع أتباع الإمام مالك.. وفى العهد الأموى قال الجعد بن درهم أنّ القرآن مخلوق ومحدث، فأتى به الوالى خالد بن القسرى إلى مسجد الكوفة مقيدًا بالأغلال يوم عيد الأضحى وذبحه مثل الشاة.. والمأمون تبنى فكرة المعتزلة حول خلق القرآن.. واعتقل كل من رفض تأييد رأيه وكان من بينهم الإمام أحمد بن حنبل الذى ظلّ فى السجن 28شهرًا وكان يُضرب بالسوط إلى أنْ يُغمى عليه.. ووصل التعصب لدرجة اغتيال الصوفى الكبير الحلاج الذى حاول التوفيق بين الدين والفلسفة اليونانية، فكان مصيره السجن 8 سنوات.. وضربه بالسياط وحرق جثمانه.. ورغم أنّ القضاة حكموا بتكفيره، فقد كان من الصالحين فى نظر الجماهير.. والتعصب نهش صدور الفقهاء ضد الفيلسوف السهروردى، فتآمروا عليه لدى صلاح الدين الأيوبى الذى أمر بقتله.
إنّ اغتيال المعرفة فى تاريخ الفكر الإنسانى منذ الحكم على سقراط بالإعدام، تؤكد على تلازم ثنائى الشر المطلق: العداء للمعرفة (بمراعاة أنّ الفلسفة هى المدخل للمعرفة) واغتيال كل صاحب فكر.. وصدق من قال ((من يبدأ بحرق الكتب ينتهى بحرق البشر)).
إننى أناشد الثقافة السائدة ووزارة الثقافة لإقامة ضريح رمزى فى الإسكندرية للفيلسوفة المصرية هيباتيا.. وأتمنى أنْ يأتى يوم على مصرنا يكون لدينا سيناريست ومخرج ومنتج ليُبدعوا فيلمًا عن حياة ومأساة هذه الفيلسوفة التى يعرفها العالم الحر، بينما هى مجهولة فى ثقافتنا المصرية السائدة.. هذه الفيلسوفة كتب عنها جورج ساراتون فى كتابه (العلم القديم والمدنية الحديثة): ((كان لها شرف مزدوج: فهى أول من اشتغل بالرياضيات من النساء، وهى من أوائل الذين أستشهدوا فى سبيل العلم)) وإذا كان الأوروبيون أنتجوا فيلمًا عن حياتها ومأساة اغتيالها، فلماذا لم يـفكر أحد مبدعى السينما فى مصر تحويل قصة حياتها إلى عمل فنى بلغة السينما؟!