القاهرة 22 سبتمبر 2020 الساعة 10:43 ص
عاش الذكريات: صلاح صيام
في حياة كل مبدع ذكريات جميلة أحيانا وحزينة غالبا، وهى ما تبقى عالقة فى الذاكرة لتذكرنا بكل ما هو مؤلم وجارح.. الشاعر الثائر بابلو نيرودا يقول عن المذكرات إنها تسجيل لصور فوتوغرافية، أما الذكريات فهي تسجيل لوحات تشكيلية من صنع فنان نحت الألم في قلبه الكثير. والاقتصادي الشهير السيد أبو النجا كتب سيرته الذاتية بعنوان "ذكريات عارية" وهو عنوان دال وموح. وفي مذكرات خالد محيي الدين أراد أن يطلق عليها اسم "ذكريات خالد محيي الدين" إلا أن الكاتب الكبير رفعت السعيد أقنعه بأن العنوان الأنسب هو "الآن أتكلم".
(فى هذه السلسلة نحاول الغوص فى أعماق المبدعين.. نستخرج ذكرياتهم المحفورة فى الذاكرة، تلك التى لا تختفى بفعل الزمن أو أشياء أخرى.
يقول الشاعر نادر ناشد: إن الذكريات عندى لها لون آخر غير ما يؤمن به كثيرون.. أنا شخصيا أربط بين كثير من الأحداث وبين الشهور؛ فما أن يمر شهر بمواقفه إلا ويعود آخر. ولذلك اخترت عنوان أحزان سبتمبرية، وهو أصلا عنوان ديوان شعر للعبقري صلاح جاهين، ولكني أحب هذا الشهر وأحن إليه ربما لأني ولدت في أوله وربما لأني خرجت من معتقل السادات في يوم 29 سبتمبر.. حيث اعتقلت في أحداث انتفاضة 18 -19 يناير 1977 وبرغم الإفراج السريع عن عشرات الشباب بعد أقل من شهر ونصف شهر إلا أنني بقيت 9 أشهر ولكن هذا الشهر يترك لي أحداثا أكثر أهمية.
والحدث الأكبر هو رحيل زعيم العرب جمال عبد الناصر يوم 28 سبتمبر 1970 كان من أقسى الأيام ليس على مصر فقط، بل على كل العرب.
و"عبد الناصر" من أكثر من هوجموا ولحقته الطعنات وقد نسب إليه ما لم يحدث وما لم يفعله، فقد زعم كثيرون أن العهد الناصري هو عهد قمع الأفكار والإبداع والمعتقلات. والحقيقة عكس هذا تماما، فقد سادت الساحة المصرية مجموعة مؤلفات غير مسبوقة وامتلأت المكاتب بالآلاف من كتب الأدب والفكر والسياسة والاقتصاد والتاريخ لا نزال نتعلم منها حتى الآن، إلى جانب تشجيع الآلاف من الأدباء الشبان هم الذين جسدوا حركه الإبداع الحي الصادق، وكانت مؤسسة السينما مسؤولة عن تبني تجسيد أعمال رواد الأدب والشباب فكانت أعمال نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وطه حسين ويحيى حقي ويوسف إدريس. وانطلق المخرجون الشباب ولأول مرة نراهم في المهرجانات العالمية يحصدون الجوائز العالمية ويرفعون اسم مصر في كل بلدان العالم.
(ومن بين المواقف التي تشير إلى اهتمام الزعيم عبد الناصر بالفكر ما حدث بعد عرض فيلم شيء من الخوف بستة أيام؛ إذ قررت جهات رقابية منع عرض الفيلم؛ لأن بطل الفيلم يرمز لجمال عبد الناصر، ووصل الأمر إلى الرئيس فقرر أن يحضر بنفسه عرض خاص ويقرر صحة أو خطأ هذه المزاعم وحضر مؤلف الفيلم الأديب ثروت أباظه والمخرج حسين كمال وأبطال الفيلم شادية ومحمود مرسي. وشاهد ناصر الفيلم ووافق على عرضه في الحال ونفى ما أشيع عن أن الفيلم يرمز إلى شخصه.
موقف آخر حدث أيضا بعد نشر رواية ثرثرة فوق النيل لنجيب محفوظ، وقد أصر عبد الحكيم عامر على اعتقال الأديب الكبير؛ لأن الرواية تسخر من سلبيات المجتمع المصري ومن انتشار الفساد في كثير من المؤسسات، وتدخل عبد الناصر ومنع قرار الاعتقال.
(وكانت أقرب المراثي إلى نفسي مرثية لويس عوض بعنوان: صديق الفقراء.. ترك ناصر ميراثا برغم كل التحديات التي واجهته خاصة بعد 15 مايو 1971 وهو ما أسماه السادات بثوره التصحيح.. تعالى بعدها خبث الأعداء، وبعد أن كتب الشاعر نزار قباني قصيدته الشهيره "قتلناك يا آخر الأنبياء" صار الهجوم على عبد الناصر، وعلى كل من كتب عنه هجوما شرسا وصل إلى منع دخول نزار مصر حتى مقتل السادات
ما تركه عبد الناصر من تغيير في جذور المجتمع المصري لا يمكن لأحد مهما تقوى بالأكاذيب أن يمحوه. ولو نظرنا فقط إلى الجانب الثقافي فسنجد أن ما فعله ثروت عكاشه وكان ناصر لم يسلمه مسؤولية وزارة الثقافة، بل عينه نائبا لرئيس مجلس الوزراء تقديرا للثقافة ولعكاشة.. أنشا "عكاشة" أكاديمية الفنون والثقافة الجماهيرية. وأما مشروع نقل معبد أبو سمبل من مكانه لإنشاء السد العالي فكان بمثابة معجزة لا يمكن لآخر أن يفعلها.
(كانت الثقافة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر هي حجر الزاوية لكل فكر سياسي أو اقتصادي. وكانت للكتب والنشر مكانة كبيرة وكانت المجلات الأدبية والفنية في قمه طموحها وشموخها؛ مما شجع شباب المبدعين على تجويد إنتاجهم الأدبي والفني، خاصة مع إنشاء مشروع تفرغ المبدعين الذي خلف لنا تراثا خاصا من كتب ومعارض تشكيلية، وأما المسرح في الستينيات فكان في أعلى حالاته، ولا يزال مبدعو المسرح في هذه الحقبة هم رواد المسرح حتى اليوم.
(كان الفنان الكبير عز الدين نجيب يحدثني دائما عن نشاطه هو في جهاز الثقافة الجماهيرية، وكان أصغر رؤساء بيوت الثقافة سنا، وأحدث فعاليات ثقافية وأدبية وتشكيلية غير مسبوقة، بل لم تتكرر منذ ذلك التاريخ.
ونكمل فى الحلقة القادمة إن شاء الله.