القاهرة 08 سبتمبر 2020 الساعة 12:07 م
بقلم: حاتم عبد الهادى السيد
بداية: فليس من يكتب قصيدة نثر يعنى أنه يستسهل الكتابة، فقصيدة النثر وإن خلت من شرائط الوزن والقافية وغيرها إلا أنها لها أشراطها ومنها التى تتعلق بالهارمونى العام لتكوين تلك القصيدة، ومنها ما يتعلق بجمالية الانتقال من موضوع إلى آخر، ومنها ما يتعلق باللغة واستخدامات البلاغة كذلك، فهى ليست منبتة الصلة بالشعر العربى، بل تنبنى معماريتها على اللغة والخصائص الفنية للمخيال والتناصات والإحالات السياقية، وربما الحيل البلاغية واللغوية ليماهى الشاعر ظاهر المعنى، وينداح إلى خلف ظاهر النص، ومن هنا يترك للقارئتشاركية، أو يتركنا لنتأول القصيدة الرامزة.
كذلك من مشروطيات القصيدة النثرية أنها تشترط بلاغة الصورة عبر المجاز معتمدة اقتصاديات اللغة المعبرة عن المقصدية والمحيلة القارئ إلى أفق وذكريات وتاريخ مضى، أو إلى إحالات أسطورية،أو عبر المثيولوجيا والإبستمولوجيا فهى قصيدة تمتاز على الأخريات بالبذاخة واللغة الطازجة البكر الرامزة والبسيطة والموغرة في أوار البلاغة العربية الأصيلة، والبلاغة الجديدة عبر النحو التوليدى والأسلوبيات المعاصرة وعلم اللغة التحويلى وغير ذلك.
وفى قصيدة الشاعر السودانى صباحى صالح، في قصيدته: "صديقى الذى لم يؤمن بوجود الله يوماً"، ما يدعونا أن نقف بشدة لنتأمل الحديث عن اليومى والحياتى وهو الأمر الذى يدخل في صميم قصيدة النثر الجديدة فنراه قد قسم قصيدته إلى عدة مقاطع واستهلها بالحديث عن صديقه ربيب الكأس الذى أفزعه تفشى وباء كورونا فجاء إليه خائفاً من الموت ونراه قد قذف بالكأس في النهاية ليتوب إلى الله، يقول :
صديقي
الذي لم يؤمن
بوجود "الله" يوما
با?مس كان يحتضن كأسه
ويبكي على كتفي
كطفل صغير
كان يحدثني عن الوباء العالمي
وعن ا?رقام الفلكية للضحايا
وعن خوفه من الموت
قال لي: كيف لرجل سكير مثلي
أن يقابل الله؟..
بهذه الم?مح اليابسة
وكل هذه الخطايا
ثم أسقط الكأس من يده.
وفى اعتقادى أن الموضوع على طزاجته إلا أننا رأينا الشعر التعليمى متجسداً هنا، إلى جانب استخدامه السرد العادى دون تعب منه، أو وجود حيل لغوية، لكنه مع ذلك أكسبنا تعاطفا إنسانيا عندما يبكى المدمن وكأسه بيديه كطفل يخاف الموت، أو هى لحظة نور ليقلع عن عاداته السيئة فتكون الجائحة سببا في العودة إلى الله، وأحسب أن موضوعة القصيدة باذخة، وقد احتوت دراما السرد في الحوارية الإنسانية الفريدة بينه وبين صديقه، وفى كل فقد برع في نقل الموضوع إلينا بشعرية تشبه أدب السكون والصمت وهو أدب عالمى جديد ما بعد حداثى يمرر الفحش والمتمثل هنا في الجائحة لكورونا، لكنه أعادنا إلى الفضيلة والتوبة ورمى الكأس.
ولعل المقطع الثانى "أمى" نرى جمالية الوصف عبر الاستخدام التجريدى للغة الرامزة واقتصادياتها الأثيرة، فهو قد ترك الموضوع للقارئليتأول صورة بصرية وعقلية عن هذه الأم الطيبة وما فعلته بالتوجه إلى الله وأمرهم بالصلاة ليزيل المولى عز وجل الغمة عنهم، يقول :
أمي
امرأة لا تعرف شيئا
عن محاربة الفيروسات
هي تصلي للجميع دوما
وتأمرنا بالص?ة مرارا
بل بصورة يومية
لم يتسلل الملل يوما إلى قلبها
ولم تشعر بمرارة التكرار .
أما المقطع الثالث "إليك وحدك" فيتجلى أدب العزلة والصمت والسكون وجمالية الوصف بما يجعلنا نصفق له كثيراً، فقد استخدم لغة تتماهى مع الحدث، ومن زاوية شعرية سردية أكثر إشراقاً وتعابيرية، عن المقطع الأول فهو هنا يخاتلنا ببراعة ويخش إلى أرواحنا، فهو عبر المجاز يحيلنا إلى استكناه التمايزية لديه خاصة حين يتحدث عن بحثه لكمامة بحجم قلبه كى لا تصله العدوى، وتجىء الخاتمة الأكثر جمالية عبر التساؤلات فهو لن يقتل الفراشات وهو البستانى الذى يعرف تلقيح الزهور، وعبر الإزاحة والسياقات الإحالية يحيلنا إلى الذات/ ذاته/ ذواتنا،إلى العالم بحدائقه الجميلة، وكأنه يعطينا صورة مغايرة للعالم ما بعد الجائحة، فقد رأيناه مشغولا عن الموت والحياة بالتساؤلات الكبرى الباذخة، يقول:
إليك وحدك
أهدي كل هذا الخراب، وقلبي
قلبي الذي نخره
سوس الوحدة
ومزقته مخالب الخيبات.
هذه ا?يام
الجميع مشغولون
بالبقاء على قيد الحياة
إ? أنا..
مازلت أبحث
أبحث عن "كمامة"
بحجم "قلبي"
كي ? تصلك العدوى!..
فكيف لبستاني
يعرف أهمية التلقيح
أن يقتل الفراش؟..
أثمن وأغبط الشاعر السودانى، وأشد على يديه، وأقول: يبدو أن موضوعة الأدب قد اكتسبت بعداً مغايراً بوجود كورونا لاستشراف أدب جديد، أو موضوعات جديدة للأدب لم يتطرق إليها الشعراء قبل وجود الوباء العالمى، وربما هذه إحدى مزيات الفيروس والجائحة وعزلة المنزل، والعزلة النفسية والخوف من المجهول: المرض/ الموت/ والحرص على الحياة.