القاهرة 08 سبتمبر 2020 الساعة 11:39 ص
كتب: محمد زين العابدين
هذا الكتاب الجميل الصادر عن الدار المصرية اللبنانية، يطوف بنا في رحلة شديدة الثراء، في عالم شخصيات ملأت السمع والبصر، وأعلام في مختلف المجالات بين السياسة، والعمل الأكاديمي، والأدب، والفن، والرياضة؛ تعرف عليهم جميعاً بحكم طبيعة عمله الدبلوماسي المفكر السياسي الكبير د. مصطفى الفقي.
قد نختلف، أو نتفق مع مؤلف الكتاب الدكتور مصطفى الفقي بحكم دخوله معترك العمل السياسي، بكل ما يحيط به من دهاليز، وتوازنات. لكنه بلا شك يظل من الخبرات النادرة التي عاصرت أجيالا مختلفة، ومفكراً موسوعياً، له رؤيته الهادئة، وتحليلاته العميقة، وهو في هذا الكتاب يقدم لنا فيضاً من المعلومات الشيقة، والمواقف الطريفة عن المشاهير الذين اقترب منهم.. وفيما يلي نقتطف لكم بعضاً منها:
* أنديرا غاندي:
يحكي عن مأساة فقدها لابنها "سانجاى"،الذي كانت تعده لخلافتها،حين سقطت به طائرة داخلية، ووقفت تلك المرأة القوية تحرق جثمانه، وتدفع بعمود حديدي إلى جمجمته -أثناء عملية الحرق- في مشهد مأساوي، لا ينساه أبداً، ويحكي كيف قابلها شخصياً عدة مرات،أثناء عمله في"نيودلهي"(1979-1983).. ومن أطرف ما يحكيه عنها،لقاؤها بالأديب المصري الكبير د.يوسف إدريس؛حيث استقبلته بود شديد،وظل هو بشخصيته الجذابة يقبل يدها،ويلثم ذراعها،وهي تبدو شديدة السعادة به!كما شاعت قصص كثيرة عن إعجابها الشديد بالمفكر العربي الكبير،د.كلوفيس مقصود،الذي كان مديراً لمكتب الجامعة العربية بنيودلهي،وكانت ابنة"نهرو"الزعيم الهندي الكبير،شديدة الحب للزعيم عبد الناصر،وعائلته،وجاءت إلى القاهرة في ذكرى الأربعين لرحيله،من المطار إلى منزل الأسرة مباشرة،وغادرت في هدوء.واستدعى مدير مكتبها ذات مرة سفيرنا اللامع،د.نبيل العربي،ليبلغه باستعدادها لزيارة القاهرة،ولقاء الرئيس السادات،شريطة حصولها على الدكتوراة الفخرية من جامعة الأزهر،وكان هدفها كسب أصوات المسلمين الهنود في الانتخابات التشريعية،ولم يكن ذلك ممكناً لأسباب معروفة،وهذا يعكس قيمة الأزهر الشريف في العالم.
* تحية عبد الناصر،وجيهان السادات:
عن السيدة"تحية كاظم"قرينة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر،يقول:"رفيقة حياتهوشريكة كفاحه المصرية العظيمة.تردد أن عائلتها تنحدر من أصول إيرانية.رآها المصريون يوم رحيل القائد الكبير،نموذجاً إنسانياً راقياً،للأرملة الحزينة التي فقدت الحياة،والأمل في لحظة واحدة.هي السيدة التي رفض زوجها"الصعيدي" أثناء زيارة رسمية لأثينا؛ أن تتأبط ذراع الملك"بول"ملك اليونان،وتتأبط الملكة"فيكتوريا"ذراعه،في تقليد بروتوكولي لم يقبله،وخرج عليه في مناسبات مختلفة.ذهبت لأداء فريضة الحج،بعد رحيل زوجها بسنوات قليلة؛فخرج الملك العربي الأصيل"فيصل بن عبد العزيز"رحمه الله،عن التقاليد الملكية المرعية في العرش السعودي،ليتصل بها شخصياً ويومياً، للاطمئنان عليها،غير مكتف بأن تقوم قرينته،الملكة"عفت"بذلك،نيابة عنه،برغم خلافه السابق مع(ناصر). إنها خصومة الزعماء،وخلاف الأقوياء".أما السيدة "جيهان السادات"، فيحكي عن ذكائها الاجتماعي،ولباقتها،وقدرتها على التواؤم مع الظروف-مهما كانت صعبة-ورغم نصفها الأجنبي؛إلا أنها تمثل الشخصية المصرية حتى النخاع،وتعبر عنها بعمق،وتتغلغل في جوهرها باقتدار.
* الدكتورة عائشة عبدالرحمن "بنت الشاطىء":
يقول عنها:"تألقت في رحلتها العلمية،وتميزت في رؤيتها الثقافية،منذ التقت بأستاذها"الشيخ أمين الخولي"مبعوث الملك"فؤاد"من الأزهر إلى"برلين"ضمن حركة الابتعاث التي اعتمدت عليها مصر الحديثة في مواصلة مسيرة النهضة،والتنوير".ويحكي عن الصلات التي ربطته بها،ومن بينها أنها والدة زميلته الأستاذة"أديبة"بكلية الاقتصادوالعلوم السياسية،بالإضافة للقاءاته،وحواراته معها،وإعجابه بلسانها العربي الفصيح،وأسلوبها الجزل الرصين،ولو لم يكن لها إلا كتابها"زوجات النبي"؛لكفاها ذلك تميزاً وفخاراً، وسوف تبقى مقالاتها في"الأهرام"فصولافكرية،يعود إليها المثقفون العرب،كلما غازلتهم نسمات رقيقة من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية.ويقول:"عندما كنت سفيراً في"فيينا"؛كنت شديد الحرص على وجود زميلتي"أديبة الخولي"،وزوجها النمساوي المسلم،في دار السفارة،أثناء الاحتفال بكافة المناسبات المصرية،والدينية.لقد كان زمناً جميلا، احتفظت فيه الكلمة بجلالها،والفكرة بعمقها،والنظرة بموضوعيتها".
* د.أحمد مستجير:
يقول عنه:"إنه ذلك العالم المصري الفذ،الموسوعي المعرفة،المستقبلي النظرة،الذي ارتبط اسمه بعلوم الهندسة الوراثية،وهو الأستاذ الجامعي المرموق،المتخصص في العلوم الزراعية،والذي يعتبر أستاذاً لجيل كامل من المتخصصين في الدراسات الحديثة.كان معنياً بوطنه،وظروفه الصعبة، ومهموماً بمستقبل الأجيال القادمة،وكانت ميزته؛أنه يضرب في كل جوانب المعرفة الإنسانية بسهم؛ فهو عالم،ومفكر،وشاعر،وأديب، وفنان.ربطتني بهذا العالم الجليل صداقة طويلة؛فقد كان حديثه ممتعاً، وآراؤه سابقة لعصره، وما زلت أتذكر-وأنا سفير لمصر في"فيينا"-ذلك الصباح البارد،عندما دخل إلى مكتبي،بمبنى السفارة،قائلاإنه يمر بالعاصمة النمساوية لأيام قليلة،ويعيش خارج"فيينا"عند أصهاره،فقد كان-رحمه الله-مقترناً بزوجة نمساوية فاضلة ،شاركته مسيرة الحياة،ورحلة الكفاح،وقد أتاح وجودها في حياته،رؤية العالم من منظور أوسع،مع احتكاك أكبر بالعقليات الأجنبية المستنيرة،في فروع العلم المختلفة.كان مفكراً نادراً،يستطيع أن يعكس التطور العلمي في صورة أدبية جذابة،وبسيطة.رحم الله"أحمد مستجير"،الذي نتذكره،كلما ازدادت مخاوفنا من المستقبل".
* صلاح عبد الصبور:
يحكي عن ذكرياته معه؛فيقول:"عرفت الشاعر الراحل"صلاح عبد الصبور"،الذي قضى إلى جوار ربه،ولم يكن قد برح كثيراً سنوات شبابه.عندما دعوته إلى مهرجان للشعر،بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية،في منتصف الستينيات،عندما كنت رئيساً لاتحاد طلابها،وأتذكر يومها المئات يحتشدون في المدرج الكبير،والشاعر الشاب يتلو أشعاره،بينما الطلاب يستكملون معه بعض أبياتها، شولا عجب؛فقد كان مبشراً بمرحلة شعرية جديدة. شاءت الظروف أن ألتقي مرات،بشاعرنا الذي رحل عن دنيانا إثر مناقشة حادة، اتهمه فيها بعض أصدقائه،بأنه تماشى مع نظام الرئيس الراحل"السادات"،وأطروحاته،وأنه حصل على المقابل،برئاسته للهيئة العامة للكتاب،وانفعل"عبد الصبور"يومها،ولم تفلح الإسعافات الطبية في إنقاذ حياته".ويحكي عن عمله مستشاراً إعلامياً في الهند؛فيقول:"اتسمت فترة وجوده بالتألق الثقافي،والتوهج الشعري،ولمست ذلك بنفسي،حين عملت بالسفارة المصرية بالهند،بعد مغادرته لها بشهور قليلة.طرأت على ذهني فكرة أن أطلب رأى شاعر مصري كبير،عاش في الهند سنوات، وبالفعل دعاني إلى منزله،وجلسنا معاً في الشرفة،وامتد الحديث لعدة ساعات،يحكي لي فيها عن سحر الهند،وثقافاتها،ودياناتها.وسوف يبقى"عبد الصبور"علامة فارقة في تطور الشعر العربي،ونموذجاً فريداً"لأحلام الفارس القديم"؛فلقد كان-رحمه الله-كتلة جياشة من المشاعر.
* نجيب محفوظ:
عن أديب مصر العالمي،يقول:"تعرفت على الروائي الكبير،في لقاءات متعددة،رتبها بعض الأصدقاء،وكان أولهم الأستاذ"محمود السعدني"رحمه الله؛حيث كان لنا لقاء كبير في إحدى الأمسيات،بمنزل"عمدة الجيزة"الفلاح الراحل"إبراهيم نافع"،وكان"محفوظ"متجلياً،يداعب الجميع بضحكته العالية،ويجيب عما يريد أن يتحدث فيه،ويتعلل بثقل السمع،للهروب من الإجابة عما لا يرحب بالخوض بشأنه.تعددت لقاءاتي بالأستاذ،من خلال بعض الأصدقاء،في مقدمتهم"محمد سلماوي"،و"جمال الغيطاني"،خصوصاً في الاحتفال السنوي بعيد ميلاده،وجلساته المنتظمة،بقاعته بفندق"شبرد"على ضفاف النيل،وبهرني فيه-وهو في تسعينيات العمر،رحمه الله-روحه المرحة،وأذكر مرة أن إحدى المعجبات الأوروبيات،التي يعرفها من قبل؛جاءتوقبلته على وجنتيه في عيد ميلاده،فتصور البعض أنه لا يعرفها،لضعف بصره؛ولكنه قهقه قائلا:لقد عرفتها من طريقة تقبيلها لي،والتي لا تنسى!إنه نجيب محفوظ،الذي لم يركب طائرة في حياته-إلا مضطرا-في زيارة إلى "اليمن الثائر"، لدعم الجناح الجمهوري،وقد طار مرتين بعد ذلك لظروف اضطرارية،الأولى إلى"بلجراد"،والثانية إلى"لندن"للعلاج،وكان ذلك في وقت لم يكن فيه أحد يستطيع أن يعترض على تعليمات الرئيس"عبد الناصر"،وهو ما جعله يؤثر السلامة-طوال العهد-لأنه حويط بطبيعته،حذر بالفطرة،فيه دهاءٌ صامت،وإنسانية فائقة،وقدرة على الهروب من المواقف الحدِّية،ورغبة عارمة في الارتباط بأرض الوطن".