القاهرة 01 سبتمبر 2020 الساعة 09:20 ص
قصة: محمد فيض خالد
سارت الحياة معه على رتابتها، قضى عمره على هذهِ الشّاكلة راضيا قانعا، منذ أن كان صبيا يصطحبه والده معه إلى عمله، ما إن ينتهي من فطوره، حتى يُسارِع في نشوةٍ؛ فيلتقم غابة "الجوزة" في صمتٍ وتركيز، يرصّ قطع الجّمر من كوالحِ الذرة، ثم يهرس حبات المعسل يلتّها بين أصابعهِ لتّا، يمرر أصابعه قُرب أنفهِ المدبب، يغمض عينيه ويغيب لحظاتٍ مُتلذذا، بعدها يرمي ببصرهِ نحو سقفِ البيت، وكأنّه يعدّ جريده المتراصّ بإحكامٍ رغم تهالكه، يُشيّعه بنظراتٍ يائسة منزوعة الرجاء، كلّما تفلّت الدخان من فمه، وخيوطه البيض التي تتخلل أسنانه المهترئة، تتوالى سحبه بكثافةٍ نفثاتٍ تلو الأخرى بلا انقطاع تُعَبق المكان، يبدو صاحبنا لمن يراه إنسانا عزل نفسه عن العالم، واختزل حياته بين أنفاسهِ تلك المنسابة في عبثٍ، يمدّ شفتيه العراض وهو يدندن بنغمةٍ باهتة غير مفهومةٍ، يمصمص مسرورا في إعجابٍ، تخاله يأكل الدخان قبل أن يتركه.
تتراخى أعصابه وهو يلقي بأطرافهِ غير مكترثٍ لشيء، حتى صياح أبنائه وتشاكسهم من حولهِ، ومعارك الصّباح المعتادة على فضلةِ الفول المتبقية في الطبق، يا لحياة البؤس والشظف، ويا لأعصابهِ التي تشبه الثلج، غير أنّ سلوكه الباهت هذا، ما كان ليمرّ مرور الكرام على زوجتهِ الغاضبة، التي ضاقت بهِ ذرعا، تحدجه بعينها الضيقة، تمطّ بوزها اليابس وهي تتقلب على جمرِ الغيظ بعد أن طفح كيلها، وضاع أملها في صلاحِ حال زوجها التّعس وتنبلتهِ.
تتحرك حركاتٍ سريعة في البيتِ، تضرب الأرض بقدمها الحافية، تتصايح بصوتٍ عال، تسب هذا وتضرب بعصاها تلك.. وزعم ذلك لا يغيب صاحبنا عنها لحظة، وكأنّ رسالة تُريدُ أن تصل إياه، تلقي في حنقٍ كوالح النار إلى جانبهِ، ثم تُدير وجهها وهي تُزمجر كاسفةَ البال.. وشيئا في نفسِ المرأة يأكلها؛ لكنّها لا تنطق، فهذه حاله ولن يتغيّر أبدا. وبعد قليلٍ وبين رجاءٍ وترقب، يمدّ الرجل ساقيه في استسلامٍ، وهو لا يبالي بنظراتها التي لا تنقطع ، توشك أن تأكله، تركها وشأنها تفرك الأرضَ من تحتها، بعد أن انحنى على شقهِ الأيسر، يمرر يده فوق عظمةِ فخذهِ النَّحيف العاري، ودفعات الدخان الكثاف لا تزال تتلاحق في تهورٍ من فمهِ، اضطربت المرأة وازدادت حركتها هياجا، مدّت يدها فانتزعت الحصير القديم المُلقى بجوارهِ في تهور، وشرعت في نفضهِ بقوة. وبعد ثوانٍ معدودات عبّق المكان الغبار، امتلأ البيت بالتّرابِ، هاجَ صدر صاحبنا، وانتابته نوبة سعالٍ حاد، تلاحقت أنفاسه، لا يقوى على التقاطها، ألقى الجوزة من يدهِ وجعلَ يحبو على يديهِ، حتى وصلَ زير الماء، سارعَ فدلقَ كوبا منه في حلقهِ.. مرّر الباقي فوق وجهه الشّاحب المتشنج، رماها بنظرةٍ حارقةٍ من عينيهِ، وأنفاسه لا تزال تتسارع، وبعد قليلٍ هدأت ثائرته، لينهال عليها سبّا وشتما: إيه دا يا عميه.. التراب ملا صدري.. هو قصر عابدين شغاله تنضيف.. يقطع لقمتك يا بعيدة..
لم ترد بكلمةٍ واحدة، أسندت الحصير إلى الحَائطِ، ثم اعتدلت نحوه ساخرة: هو إحنا هناكل ولا نشرب من الجوزة.. ملهاش آخر.
تقدّم نحوها في خضوعٍ، بعد أن قبضَ على ذراعها، قائلا: متروقي أمال.. يا ست الحسن والجمال.
تملّصت من قبضتهِ في ميوعةٍ وتغنج، وهي تنظر نحو أبنائها في حياءٍ، مدّ يده في تكاسلٍ ناحيةِ العِدة المُعلّقة خلف البابِ، حقيبة صغيرة من القماشِ السّميك المخطط، وضع فيها مقصاتٍ من كُلّ نوعٍ وحبلا من الكتانِ وقطعا من العصي، انفرجت عندها أسارير المرأة المنقبضة، هرشت خصرها النحيل، وهي تمسك بعرجونٍ يابسٍ في يدها.
ورث "مصباح" هذه الصنعة عن أبيهِ، وأبيهِ عن جدهِ، على ما يبدو أنّها ميراث الأقدمين، فالعائلة جميعا عملت بهذهِ الحرفة أبّا عن جدّ، اشتهروا بها في الناحيةِ كُلها، فهم أشهر بيتٍ في الزمامِ يجيد صغيرهم وكبيرهم حلاقة الحمير، كانت مهنة رائجة في السّابقِ، تدر دخلا لا بأس بهِ يفتح بيوتا كثيرة وحرفة تُحترم من الجميع قبل أن يتغيّر الحال فتصبح بين عشيةٍ وضحاها سُبةً لمن يشتغل بها، ووصمة عارٍ تجني على أولاده.
بعد أن تبدلت قيم الريف، فطغت عليهِ المادة التي ضيّعت بريقه، وجعلته مسخا مشوها.
هَجرَ الفلاحُ الطّينَ والعرق، وتنكّر للفأسِ وجحدَ عشرتها، واتخذ سبيله إلى المدينةِ، التي أغرته أنوارها النايلون المتلألئة، وأزكمت أنفه رائحة الصابون المعطر.
فباعَ داره، وهجر دواره، وتخلى عن إرث أسلافه، وهالَ التراب فوق موطنِ صباه، علّه ينسى حياة الغلابة ودنيا الشقاء.
أخرجَ صاحبنا قدمه خارجَ عتبةِ الدار، وبدأ في قراءةِ الفاتحةِ والاستعاذة بالله من شرِّ الأنسِ والجان، وتعطيل الحال، تصادف خروجه مرور جاره "فوزي الدكش".. ألقى عليهِ السّلام مهرولا تحت جوالٍ كبير، انتظره حتى عادَ، نظرَ إليهِ في ثيابهِ الجديدة، بادره في فضولٍ: خير.. على فين العزم كدا يا فوزي؟
رد عليهِ في استعجالٍ: عقال أمالتك.. مسافرين مصر ..
رمقه بنظرةٍ طويلة، سحبَ طرفه المعلّق بهِ، مشى ناحيةِ جدارٍ ركن العدة إلى جوارهِ، ثم جلسَ القرفصاء، مدّ يده إلى جيبِ الصديري الداخلي، أمسكَ بعلبةِ السّجائر، استلّ واحدة منها في هدوءٍ، وضعها في فمهِ وألحقها بعودِ ثقابٍ، وعينه لا تزال مُعلّقة بصاحبهِ، يركض هو وزوجته وأولاده يحمّلون أمتعتهم فوق عربةِ النقل الواقفة أمام الدّربِ.. هزّ رأسه ببطءٍ، سحبَ أنفاسا متلاحقة، ثم أفلتها في تفكيرٍ عميق، وهو يهرش ذقنهِ الكثة،، وقد ارتسمت على وجههِ أمارات الانزعاج، حوّل وجهه بعيدا وغاصَ في فكرٍ عميق، لم يوقظه منه سوى صوت زوجته "سعدية" التي وقفت إلى جوارهِ ترقبه، وبيدها حزمة فجل، وفوق رأسها استقرت رأس كرنب كبير.
صرخت فيه: هو انت لساك قاعد مكانك.. مشبعتش قعاد.. اتحرك.
نظر إليها باشمئزازٍ.. ألقى عقب سيجاره، ثم تناول العدة في هدوءٍ، نفض جِلبابهِ البالي، ومضى في سكوت.