القاهرة 30 اغسطس 2020 الساعة 07:29 ص
جمال عاشور
حكايات كثيرة وذكريات متعددة تركها المفكر الكبير أنيس منصور الذي تحل اليوم ذكرى ميلاده، مع أصدقاءه ورفاقه من أعضاء لجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للثقافة، والذي كان يصطحبهم بشكل مستمر في لقاءات ومناقشات فلسفية عقب الإنتهاء من مناقشة الأعمال الرسمية الخاصة باللجنة.
وكان من بين هؤلاء المفكرين الدكتور محمد السيد، واستاذ الفلسفة، وعميد كلية الآداب جامعة المنيا سابقًا، الذي كشف عن بعض الذكريات مع أنيس منصور، وقال: "في اجتماع لجنة مجلة "الفلسفة والعصر" التي كانت تصدر عن المجلس الأعلى للثقافة، والذي عقد بتاريخ 15 يونيو2010 تحدث أنيس عن الدكتور حسين فوزي عالم البحار وأدب الرحلات المعروف المتوفي عام 1988 عن 88 عاما، وقال إنه تخرج من السوربون، وإنه كان يكتب بعض القصص لمجلة "السفور" لصاحبها الأديب محمد تيمور، وذكر أنه رفض منح أم كلثوم جائزة الدولة التقديرية لافتقاد أعمالها للابتكار، وربما لأنه لم يكن يميل كثيرا للموسيقى الشرقية ويفضل عليها الموسيقى الغربية الكلاسيكية بل وله العديد من الأعمال عنها من بينها كتاب عن الموسيقار بيتهوفن، وإن كان الرئيس جمال عبد الناصر (أمر أو أوصى) اللجنة أن تمنح أم كلثوم الجائزة عام 1968 (على ما أتذكر)، والدكتور فوزي كان شخصية متعددة المواهب، تنوعت اهتماماته بين العلوم والفنون، فقد كان طبيباً، ودارساً للعلوم، ومتخصصاً في علوم الأحياء المائية، وقد تدرج في المناصب والمواقع المختلفة، فكان عميدا لكلية العلوم فرئيساً لجامعة الاسكندرية، ورئيساً للمجمع العلمي المصري؛ كما كان أيضاً كاتباً تخصص في أدب الرحلات، وفي الاهتمام بالموسيقى الكلاسيكية الغربية، حتى أنه تحمس لها أكثر من تحمسه للموسيقى الشرقية وقد دفعه هذا لإنشاء البرنامج الثاني في الإذاعة المصرية ووجهه نحو تقديم وشرح الموسيقى السيمفونية، كما وله مؤلفات عديدة منها كتابه الموسيقى السيمفونية، وكتاب عن بيتهوفن".
وتابع: "ذكر أحد الحاضرين أنه هو صاحب ومؤسس أكاديمية الفنون، بل وأول من طالب بإنشاء المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية (المجلس الأعلى للثقافة)".
وأكمل: "وهناك قصة طريفة ذكرها الأستاذ أنيس تتعلق بالدكتور حسين فوزي وتوليه مهمة سفينة استكشافات علمية تسمى "مباحث"، وهي سفينة أبحاث علمية متطورة في علم البحار، ذلك العلم الذي اهتم به علماء بريطانيون في البداية أهمهم "ويمبيني"، ثم خلفهم الدكتور حسين فوزي عام 1931 وكانت تضم مختبراً صغيراً، وتستطيع الإبحار والمكوث في الماء 15 يوما متصلة، وقامت بعدة رحلات مهمة بل واستعانت بها السلطات البريطانية في بعض المهام والاستكشافات، حيث كانت ترفع آنذاك العلمين المصري والبريطاني، وفي رحلتها الأولى غادرت "مباحث" ميناء الإسكندرية، في سبتمبر 1933 حاملة البعثة التي تضم الباحثين الإنجليز وعالمين مصريين بينهما الدكتور حسين فوزي إلى بورسعيد فالسويس فالغردقة ثم قامت بعشر رحلات في عدن وكراتشي وبومباي وخليج عمان والمحيط الهندي وزنجبار وكولومبو والمالديف ثم عدن، وأخيرًا عادت إلى الإسكندرية في مايو 1934، وقطعت في تسعة أشهر، زمن تلك البعثة، 22 ألف ميل، وتعد بعثة السفينة مباحث بمثابة البداية الحقيقية لتاريخ علوم البحار في مصر، والمنطقة العربية بأسرها، وقد اكتسبت تلك السفينة شهرة فريدة حتى بين المثقفين في تلك الفترة".
واستطرد: "من الأمور التى حيرتني ولم أجد إجابة مقنعة لها عند الأستاذ أنيس خاصة فى الأشهر القليلة التى قضاها معنا بعد ثورة يناير أنه كان يتحاشى الكتابة عن بعض الأحداث السياسية الساخنة التى تدور على الساحة، إذ أنك تجد الكل مشغول بأحداث كبرى تغير من وجه الحياة وتؤثر على الجميع فى الوقت الذى يكتب فيه الأستاذ أنيس عن الأدب أو الفضاء أو الأطباق الطائرة أو حتى الموضة وأخبار الفنانات، وقد سألته فى هذا الأمر فقدم لي إجابة محبطة غير مقنعة بل لا تليق به كمفكر كبير، إذ قال أن تعاقده مع الصحيفة (كنا نتحدث عن جريدة الشرق الأوسط) كان يتضمن عدم الحديث فى الدين أو السياسة، وهذا القول وجدته حينها غير مقنع لسببين، الأول كيف لكاتب بقامة أنيس منصور أن يقبل أمراً كهذا؟ الأمر الثاني أن الأستاذ أنيس يفعل نفس الشئ فى عموده اليومي في جريدة الأهرام ويكتب عن موضوعات هامشية، ويقيني أن الأهرام لا يفرض شروطاً على كاتب فى وضع الأستاذ أنيس".
وتابع: "فقلت لنفسي لعل السبب الحقيقي الذى لم يشأ أن يذكره الأستاذ أنيس يتمثل فى إيمانه العميق بأنه ليس صحافيا عاديا أو مراسلا أو حتى معلقاً على الأحداث الجارية، وإنما هو أديب ومفكر يكتب فى الصحافة، والسبب الثاني هو تصوره أن الفيلسوف الحقيقي لا يجب أن يلهث وراء الأحداث اليومية الجارية ليعلق عليها، وإنما يتعين أن ينأى بنفسه عنها ولا يتسرع فى الحكم حتى تتضح له الصورة بعيدا عن ضبابية وتسارع الأحداث الجزئية الجارية، وهو رأي صائب فى غالب الأحوال، فكثير من تعليقات وآراء الفلاسفة تبدو غريبة غير مألوفة فى حينها ثم سرعان ما يتبين للناس بعد فترة أنها أقوال صحيحة، لقد ردد الأستاذ أنيس عبارة معروفة تلخص رأيه فى هذا الصدد وهى "ابتعد عن المنظر يتضح لك المنظور"، أستطيع بالطبع أن أفكر فى أسباب أخرى غير أنني لا أود الحديث عنها".