القاهرة 18 اغسطس 2020 الساعة 09:04 ص
قراءة: عاطف محمد عبد المجيد
في مقدمته لكتاب ”النقد الأدبي“ للباحث الفرنسي جيروم روجي، الصادر عن دار رؤية للنشر والتوزيع، يقول المترجم شكير نصر الدين إن هذا الكتاب يُعد بمثابة تفكير مُعمق في رهانات النقد، كما أنه يُعيد رسم تاريخه، ويقترح تحاليل مفصلة لأبرز تياراته النظرية الأكثر تمثيلية، ووسائل تحولاته الراهنة.
هذا الكتاب، وفق رأي مترجمه، يمكن أن يُدرج ضمن الكتب التي تمد القاريء بالأدوات الميسرة لاكتساب المعارف وتسهيل الوصول إلى مضامين دراسية بعينها، تنتمي في هذا السياق إلى حقل النقد الأدبي الشاسع، حيث يمهد السبيل من أجل استيعاب سهل للتيارات النقدية، ومعرفة المؤلفين، نقاد ومنظرين (بارت، إيكو، جنيت، باختين، غولدمان، لانسون، مورون، ريشار)، وغيرهم، والمفاهيم التي ينبغي التزود بها أثناء قراءة وتحليل النصوص. نصر الدين يرى أن العادة جرت منذ أمد طويل على النظر إلى النقد باعتباره نشاطًا مصاحبًا للإبداع الأدبي فحسب، غير أن الازدهار غير المسبوق الذي عرفته أعمال نقدية كثيرة خلال القرن الماضي يُظهر بوضوح أن النقد ليس مجرد تمرين على مَلَكة الحُكم، ولا حتى ممارسةً للشرح، بل هو بناء، إن لم يكن إنشاء للمعرفة، إذ يُبين في حقيقة الأمر أن الأدب شكل من أشكال المعرفة التي تضع تصوراتنا وممارستنا اللغوية على المحك. وفي هذا الإطار لا يمكن فصل النقد الأدبي عن تاريخ الفكر.روجي يستهل كتابه هذا بمقولة لميشل بينور يقول فيها إن النشاط النقدي يتمثل في النظر إلى الأعمال بصفتها غير مكتملة، أما النشاط الشعري، الإلهام، فإنه يُجلي الواقع بصفته غير مكتمل.كذلك يؤكد على أن الصورة المسكوكة التي تقابل النقاد بالمبدعين تكشف عن عنف مكتوم، يُمارس ضد ما يقوم به النقد الأدبي الذي من دونه، كما يقول ميلان كونديرا، يكون كل عمل عرضة للأحكام الاعتباطية وتطويه يد النسيان سريعًا. بل مرارًا ما يتم الخلط بينه وبين معلومة بسيطة عن أخبار الأدب، وهذا خلط، مثلما في حالة الآيات الشيطانية لسلمان رشدي، أدى إلى الحكم بالقتل على المؤلف.
تمهيد للقراءة الشخصية
روجي يثبت كذلك أن كتابه هذا ليس هدفه أن يكون جردًا للمناهج، ولا نظرة شاملة على تيارات النقد الأدبي، بل إنه يقدم نفسه على أنه تمهيد للقراءة الشخصية للمتون النقدية وتأهيل لمواجهة الأسئلة التي يطرحها النص الأدبي على النقد. في الفصل الأول من الكتاب يقترح روجي فحصًا للإرث من خلال التقليديين الكبرييْن المتلازمين والمتناقضين: الفيلولوجيا والهرمنطيقا. فيما ينظر الفصل الثاني للنقد المعياري الذي نشأ في العصر الكلاسيكي بصفته وعيًا بالإكراهات الشكلية والأيديولوجية التي تخبر الأعمال الأدبية.فيما يضع روجي النقد في مرآة العلم في الفصل الثالث، بينما ينصب الفصل الرابع على خطوات التأويل الكبرى التي يتبعها النقد المعاصر. أما في الفصل الخامس فيشدد روجي على الإسهام الرئيسي لنظرية اللغة في قراءة النصوص، وختامًا يأتي الفصل السادس الذي يفسح المجال للتفكير في الدور الأساسي الذي لعبه النقد المقالي الذي مارسه الكُتاب في القرن العشرين.روجي الذي يرى ضرورة مهمة النقد تتمثل في فهْم مكمن اختلاف العمل الأدبي إلى ما لا نهاية له عن أي نص جاهز للاستعمال، يتتبع ويرسم الخطوط الكبرى للاستمرارية التي تميز الإرث الإبستمولوجي الذي من دونه لا وجود للنقد الأدبي الحديث، وبالتالي يفحص على التوالي العلاقات بين الأدب والشعرية التي أنشأها أرسطو، مسألة الفيلولوجيا، أو ما يعرف بفقه اللغة، والنقد الأدبي، ومشكل تأويل الأعمال الأدبية من خلال التقاليد الهرمنطيقية، أو ما يعرف بالتأويلية.روجي يورد في الفصل الأول مقالة أرسطو المأخوذة من كتابه الشعرية والتي نصّها: ”بالفعل ما إن يطرق أحد موضوعًا في الطب أو في التاريخ الطبيعي، متوسلًا النظم والوزن، فإن الناس يعتادون تسميته بالشاعر، ومع ذلك ليس هناك ما يجمع بين هوميروس وأمبدوقلس، عدا النظم والوزن، وهكذا فإنه من الصواب نعْت الأول بالشاعر، والثاني بعالم الطبيعة وليس بالشاعر“. بعدها يقول روجي إن الطلاق الذي تم على هذا النحو منذ العصر القديم اللاتيني بين النقد والشعرية قد فصل، لأمد طويل، التفكير في لغة الحكم عن الأعمال، وبالتالي جعل النشاط النقدي يحصر تخصصه في جرد العيوب والمزايا، بالمعنى الكلاسيكي لكلمة نقد التي لا تزال رائجة حتى يومنا هذا.
المتفرج والقارئ
روجي يرى أيضًا أن النقد الأدبي في القرنين السابع عشر والثامن عشر يبين للجمهور المثقف أنه يجب قراءة المؤلفين الذين تعتبر أعمالهم بمثابة مثال يُحتذى، إذ أن هذا المنعطف المعياري الذي شكل قطيعة مع حرية القارئ مثلما كان مونتين يتصورها، هو بلا ريب مقدمة لتدريس الأدب بصفته نقْلا وتوارثًا لروائع الأعمال. كذلك يرى أن ضرورة النقد الأدبي لن يتأسس قطعًا على تصور جامد للجميل، ولا على تمثل معياري للغة وللمجتمع حصرًا، وإنما على المشاعر التي يحسها المتفرج أو القارئ، سوف تشكل مصدرًا للنقد الجمالي الذي نشأ في منتصف القرن الثامن عشر، خاصة في اتصاله بنقد الفن. وفي السياق نفسه يسرد روجي ما قاله القس دي بوس في كتابه تأملات في الشعر وفن الرسم من أنه قد يتفهم تفسير أصل المتعة التي توفرها لنا الأبيات الشعرية واللوحات.قد تبدو محاولات تقل عن ذلك جرأة بأنها متهورة، ما دام ذلك يعني جعل كل واحد يعي باستحسانه أو نفوره، وهكذا لا يسعه انتظار الحصول على الاستحسان، إن عجز عن جعل القاريء يتعرف في كتابه على ما يحدث داخله هو، وبكلمة واحدة، حركات قلبه الأشد حميمية“. روجي الذي يُنهي الفصل الثاني قائلًا إن النقد الأدبي في القرن التاسع عشر يُعد لاعتبارات كثيرة بمثابة تكرار عام لما شهدته العقود الأخيرة من القرن العشرين، إذ كان القرن التاسع عشر قرن الدراسات التاريخية منظورًا إليها باعتبارها علومًا حقة، يبدأ الفصل الثالث ذاكرًا ما أكده ألبير يثبودي في كتابه فيزيولوجيا النقد من أن النقد مثلما نعرفه ونمارسه هو نتاج للقرن التاسع عشر، وأنه قبل هذا القرن كان هناك نقاد مثل فولتير، شابلان، دونيس داليكارناس، لكن لم يكن هناك نقد. كذلك يُورد ما قاله سانت بوف من أن النقد الحقيقي يتجلى أكثر من أي وقت مضى في دراسة كل كائن، كل موهبة، وفق ظروف طبيعتهما، وفي أن نقدم وصفًا حياديًّا وأمينًا لهما، وأن يكون موضوعه مع ذلك، تصنيفهما ووضعهما في مكانهما ضمن نظام الفن. هذا ويستعين روجي بما قاله فلوبير في رسالته إلى جورج صاند متسائلًا: هل عرفتم نقدًا ينشغل بالعمل في ذاته؟ يتم إجراء تحليل دقيق للوسط الذي أنتجه والأسباب التي خلفته: ماذا عن الشعرية المُغيَّبة المعرفة؟ ما هو مأتاها؟ ما تأليفها وأسلوبها؟ ما هي وجهة نظر المؤلف؟ هذه هي الأسئلة التي لم يتم طرحها أبدًا.وبعد سرده لعدة نظريات نقدية يرى روجي أن النقد التوليدي يوسّع أفق القراءة ما دام يعيد النظر في الحكم القبْلي الذي بحسْبه يُعد النص موضوعًا منتهيًا، في حين أنه ليس سوى (حالة) حتى عندما يكون مكتملًا، ليس سوى صيغة للمقروئية. كما يرى روجي أن مكانة المقالة تتجاوز المجال التقليدي للنقد الأدبي، وينبغي الإقرار أن الطريق الملتوية التي مهدها مونتين قد اتسعت إلى حد أن المقالة صارت الفلسفة العملية الوحيدة للغة عصرنا. مثلما يرى أنه ينبغي فهم أن المقالة تشكل منعطفًا كبيرًا في النقد إلى درجة أنه تم السعي لحصرها في اسم النزعة المقالية.وبعد هذه الجولة في عالم النظريات النقدية يلاحظ روجي أن النقد قد صار أقل شغفًا مع بداية القرن الواحد والعشرين، كما يرى أن تجديد طرق النقد يتعلق بتطور مواضيع النقد وبإلغاء صفة المحرَّم عن أسلوب النقد، خاصة عند كُتاب مقاليين مثل كريستيان بريجون. وفي الأخير يقول روجي إنه في ظل شروط انعدام اليقين والاستقرار التي تغذي منها أدب القرن العشرين، فإن النقد يبدو على نحو مفارق بكل حداثته وبكل حقيقته أيضًا، لأنه مرهون باهتمام القراء، أي بقدرتهم على التفكير في الأدب بصفته طريقة للتفكير ضد كل أشكال الأرثوذكسية التي كان هنري ميشو يشميها ببساطة أفكار تنتقل عبر الفضاء هاتفيًّا في كل مكان.