القاهرة 18 اغسطس 2020 الساعة 08:52 ص
بقلم: طلعت رضوان
أعتقد أنّ جيل العواجيز (أمثالى) يتذكرون أننا كنا نجلس على أفخاذ جداتنا وأمهاتنا ونطلب منهنّ سماع (حدوته) وكنتُ أتصورأنّ الجيل الحالى- خاصة من الشباب ونحن فى عام2020- لم يعد يطلب سماع (حدوتة الجدة أوالأم) بعد انتشار التليفزيون.. وباقى الوسائل الحديثة.. ولكن كانت المفاجأة أنّ ابنتى (48سنة وبنتها فى السنة الجامعية الأخيرة) قالت لى إنها كانت تحكى الحواديت لبنتها فى طفولتها.
وبالرغم من أنّ ما قالته ابنتى أسعدنى، لأنّ ما حدث مع جيلى استمرّ مع جيل ابنتى وحفيدتى، فإنّ السؤال الذى شغلنى هو: إلى متى سيستمر هذا المأثور الشعبى؟ خاصة مع تعدد وسائل الترفيه الحديثة.. واختلاف ظروف الحياة فى القرن الحادى والعشرين، عن ظروف القرن العشرين.. ومع ازدياد نسبة عمل المرأة فى قرننا الحالى.
كما أسعدنى عثورى على دراسة ميدانية تناولتْ موضوع الحدوته.. وذلك فى كتاب الباحثة (نشوى محمد شعلان) فى كتابها (الحدوته وسيلة اتصال) الصادر عن هيئة قصور الثقافة- عام2014.. وذكرتْ أنّ الحدوته تعتبر أحد روافد الأدب الشعبى.. وأنها وسيلة مهمة فى التعبير عن الأفكار.. والقيم الشعبية.. وتــُـسهم فى تكوين السلوك النفسى والاجتماعى والثقافى للجماعة الشعبية، خاصة وأنّ الحواديت- غالبــًـا- تكون مرتبطة بمحاكاة الواقع، أو واقع شبيه بالواقع الفعلى.. وذكرتْ أنّ اهتمامها بهذا الموضوع بسبب أهميته فى المجتمع المصرى بشكل عام.. ومجتمع الريف بشكل خاص.
دار البحث الميدانى فى قرية (كفر الأكرم- محافظة المنوفية) وهذا الموقع هو موطن الباحثة..ومعرفتها بكثيرمن الخصوصيات الثقافية لهذا المجتمع، فضلا عن سهولة الزيارات الميدانية لمجتمع البحث.. ومن خلال ما توصلتْ إليه.. كان رأيها أنّ الحدوته ليس لها فائدة دون تقديمها فى ((سياق يسمح لها بتأدية وظائفها المختلفة، خاصة وأنّ عناصرالثقافة الشعبية ليست عناصر إستاتيكية.. وإنما ديناميكية.. وليست منعزلة عن بعضها)) وأشارتْ إلى ما يؤكد توقعاتى عن (مستقبل الحدوته) فى وجود التليفزيون والأقمار الصناعية التى خلقتْ فضائيات متنوعة..ومتخصصة لكل فئة عمرية..وأصبح الأطفال يعتمدون عليها، سواء فى القيم والأفكارمن خلال (برامج متخصصة) والتى تساعد- بشكل غيرمباشرفى تغييرمفردات ثقافة المجتمع.
وذكرتْ ملحوظة مهمة..وهى أنه بالرغم من ارتفاع نسبة التعليم (فى مجتمع الدراسة الميدانية) فما زال بعض أفراده يعتقدون فى وجود الجنيات والعفاريت..وهذا هوالجانب السلبى. أما الجانب الايجابى فهوأنّ أغلب أفراد المجتمع مازالوا يمارسون عادات التكافل الاجتماعى (فى مختلف المناسبات، مثل الأفراح والمآتم والمرض والكوارث) كما أنهم يحرصون على الاحتفال بالموالد، مثل (مولد الشيخ أحمد)
وعن تعريف الحدوته (فى المعجم الوسيط) أنها مشتقة من لفظة الأحدوثة، بينما العلماء لم يتفقوا على تعريف محدد، لأنّ المصطلح العالمى Folktale يأخذ ترجمات عدة..وفى اللغة العربية هى (تحريف) لكلمة أحدوثة.
وجرى العرف فى مصرأنْ تبدأ الأم/ الجدة (الراوية) قبل سرد الحدوته بقولها: كان يا ما كان..ولا يحلى الكلام إلا بذكر النبى عليه الصلاة والسلام..ومن رأى الباحثة أنّ الحدوته ((من ألصق مظاهر أنواع الأدب الشعبى)) وبصفة خاصة عندما تكون مُـحمـّـلة بالمغزى الأخلاقى..ويرى آخرون أنّ التنوع الثقافى..والاستفادة من تجارب الشعوب المختلفة، يــُـساعد على إثراء الحدوته.
وأضافتْ الباحثة أنّ الحدوته تسعى إلى ترسيخ القيم الإنسانية، من خلال دورها الأخلاقى والاجتماعى.. وفى بعض الحواديت تبيــّـن الدورالمعلوماتى، بشكل مبسط يتاسب مع سن الأطفال.. وكأنها تؤدى دورًا تعليميــًـا.
كما أنّ استماع الطفل للحدوته له جانبه الايجابى، المتمثل فى (شكل التنفيس عن رغبات الطفل المكبوتة..والتعبيرعنها) وللحدوته وظيفة أخرى هى ((تنمية الحصيلة اللغوية للطفل)) وتشجيع وتحفيز(ملكة حب الاستطلاع لديه).
وجرى العرف -فى معظم الحواديت- على ترسيخ قيمة التحية والسلام (فى بداية الزيارة أو التعارف) ومن هنا كانت المقولة الشائعة على لسان (الغولة) بالرغم من رمز القسوة والخوف منها فى المأثور الشعبى) حيث تقول لمن يدخل عليها: ((لولا سلامك سبق كلامك، لأكلتْ لحمك قبل عضامك)) كما شاع فى معظم الحواديت تعبير ((أنا العصفور لخضر لخضر.. أمشى ع الحيط واتمخطر)) وهنا تجب ملاحظة أنّ هذا التعبير مستمد من الثقافة المصرية، التى تأسـّـستْ على الثقافة الزراعية.. ورمز الخضرة.. كما تنتهى الحدوته دائمــًـا بتعبير: البنت والولد اتجوّزو.. وعاشوفى تبات ونبات.. وخلفو صبيان وبنات.. وتوته توته.. خلصت الحدوته..حلوه ولا ملتوته.. ولو كان معايا طاقيه.. كنت جبتْ لكم شوية شعريه.
وأشارتْ الباحثة إلى أنّ شخصيات الحدوته تتنوّع ما بين الإنسان والحيوان والجماد، لأنّ مؤلف الحدوته (الجدة أو الأم) وظــّـفتْ (ملكة الخيال) واستنطقتْ الحيوان والجبال والأنهار مثلهم مثل الإنسان.. وبالتالى فإنّ هذه القدرة على (توظيف الخيال) تنتقل إلى الأطفال.. وهم بدورهم- عندما يكبرون- يستخدمونها فى حواراتهم مع أطفالهم.. وهكذا تنتقل من جيل إلى جيل.
وذكرتْ الباحثة أنّ كثيرين من علماء النفس يرون أنّ الحدوته (بجانب كونها لونــًـا من اللعب الإيهامى، فإنها -فى نفس الوقت- تشبه الحلم بالنسبة للأطفال، حيث لهم فيها مجال لإعادة التوازن إلى حياتهم، حيث يجدون فى كل حدوته، شخصيات تشبه -من قريب أو من بعيد- الشخصيات التى يقابلونها.. ويتعاملون معها فى حياتهم الشخصية.
ومن خلال الحوار مع بعض رواة الحواديت من السيدات (كما جاء فى الصفحات من 384- 387) تبيــّـن أنّ الراوية تتمتع بشيء من الحرية (فى بناء الحدوته التى ترويها، سواء بالحذف أو الاضافة، أو بتغيير ترتيب
الأحداث، أو تقوم بدمج حدوتيْن فى حدوته واحدة.. وهذا يتوقف على قدرة الراوية من حيث الموهبة..وما تمتلكه من (موهبة فطرية) على الحكى.. ولديها (ذاكرة) قوية اختزنتْ ما سمعته من حواديت من الأجيال الأكبرمنها.. كما لابد أنْ تتمتــّـع الراوية بموهبة (فن الالقاء) سواء من حيث خروج الألفاظ.. والضغط على بعضها بطريقة ال Focus كما فى المشاهد المرئية، بمعنى إظهار تعبيرات الوجه.. ونبرات الصوت.. وحركات الذراعيْن..إلخ.. وبناءً على ذلك يمكن القول بوجود راوية تتمتــّـع بهذه الموهبة.. وراوية (تقليدية) تفتقد هذه الموهبة.. كما يتجســّـد الاختلاف (ما بين درجة المرونة..ودرجة النقل الحرفى) مثل الراوية التى تضع الألفاظ فى مرتبة (مقدسة) لاتحيد عنها.. وتصر على استخدامها كما سمعتها.. وذلك عكس الراوية التى تــُـحافظ على المعنى.. وفى نفس الوقت تختار الألفاظ التى ترى أنّ تأثيرها أقوى بالنسبة للأطفال.
ومن رأى الباحثة أنّ التراث الشعبى بوجه عام.. والحدوته بوجه خاص، أدّيا دورًا تربويــًـا وأخلاقيــًـا، بحيث يمكن معرفة ميول الأطفال.. واستجابتهم لما فى الحدوته من (قيم أخلاقية) وهل لديهم الاستعداد ليكونوا مثل الشخصيات الفاضلة.. والتى تعمل على نشرالخير.. وترفض أعمال الشر، بل وتكرهه وتــُـقاومه.
وذكرتْ الباحثة أنه من خلال البحث الميدانى.. ومن خلال مناقشاتها مع رواة الحواديت تبيــّـن أنّ الحدوتة تبرز.. وتــُـجــّـسد المعانى التالية: 1- احترام كبار السن (من الأقارب والجيران) أثناء الحديث 2- استخدام كلمات معينة عند الاستئذان للقيام ببعض الأعمال 3- أدب الحديث فى عرض بعض المقترحات، دون إشعارالشخص المخاطب بالضغط عليه لقبول الاقتراح 4- إلقاء التحية- بصفة دائمة عند بداية ونهاية اللقاء 5- الاعتذاربألفاظ مهذبة فى حالة الخطأ مع الغير6- تقديم الشكرالواجب لكل من أدى خدمة، حتى ولوكانت (معنوية)
وأشارتْ الباحثة إلى أنّ وظيفة الحدوته..ومجمل التراث الثقافى هى فى نقله من جيل إلى جيل.. ومع مراعاة أنّ هذه الوظيفة لها جوانبها الإيجابية، مثل زيادة التآلف والارتباط بين أفراد المجتمع.. وتوسيع قاعدة السلوك المشترك.. وتساعد على التقليل من العزلة الاجتماعية. أما عن جانبها السلبى فالحدوته تــُـقلل من القدرة الشخصية للفرد على الاعتماد على نفسه.
وفى باب الملاحق ذكرتْ الباحثة النصوص الكاملة للحواديت التى سمعتها من الرواة.. ومن بينها- على سبيل المثال حدوته تدورحول ديك وحمارومعزة.. ويعيشون فى مكان واحد..وكل يوم يجد صاحب المكان أنّ البرسيم يتناقص باستمرار.. ولما سأل الحيوانات الثلاث أنكروا صلتهم بنقص البرسيم، فاقترح عليهم الذهاب إلى ترعة.. ومن يستطيع العبور سيكون من الصادقين.. ومن يفشل سيكون من الكاذبين.. وانتهتْ الحدوته بثبوت كذب الحمار.. وفى حدوته أخرى تدورحول أختيْن، إحداهما طيبة.. والثانية شريرة.. وفى أحد الأيام ذهبتْ البنت الطيبة لشراء بعض طلبات زوجة أبيها.. وفى الطريق وجدتْ وردًا مختلف الألوان.. وكل وردة طلبتْ من الفتاة أنْ ترويها بالماء.. ولما سقتْ الوردة الحمراء قالت لها (بعد أنْ شكرتها) روحى إلهى يجعل حمارى فى خدودك.. وقالت لها الوردة البيضاء (بعد أنْ روتها بالماء) روحى إلهى يجعل بياضى فى وشك ولايجعلوش فى شعرك.. وقابلتْ (نخلة) وطلبتْ منها أنْ تسقيها.. وبعد أنْ أحضرتْ الماء وروتها قالت النخلة: روحى إلهى يجعل طولى فى شعرك.. ولا يجعلهوش فى رجليكى.. ولما سقتْ الوردة الصفراء قالت لها: إلهى يجعل صفارى فى شعرك.. ولا يجعلوش فى وشك.. ولما سقتْ الوردة الخضراء قالت لها: إلهى يجعل خضارى فى عنيكى.. ولا يجعلوش فى خدودك.. ولما علمتْ زوجة الأب بما حدث.. ورأتْ جمال ابنة زوجها.. طلبتْ من ابنتها الذهاب ومقابلة الورد والنخلة.. ولكن الفتاة رفضتْ إحضار الماء للتغلب على (عطش) الورد والنخلة، فطلبوا من السماء أنْ يكون الطول فى سيقانها..وليس فى شعرها.. ويكون الاحمرار فى عينيها.. وليس فى خديها.. وهكذا من أدعية تدل على أنّ الجزاء (من نفس العمل) وإنّ اللى يعمل الخير يلاقى الخير.. واللى يعمل الشر يلاقى الشر.
ولاحظتْ الباحثة أنّ أغلب الحواديت تكثر فيها الألفاظ التى كانت مستخدمة فى الحضارة المصرية.. واستمرّتْ حتى عصرنا الحالى (فى القرن الحادى والعشرين) مثل: تاتا تاتا.. خطى العتبه، لتشجيع الطفل على المشى أثناء الحبو.. ومثل: أمبو.. لطلب الماء.. و(مم) للأكل.. إلخ.
من بين رواة الحواديت: السيدة (فاطمة الجمل- 64سنة- موظفة بالمعاش) والسيدة (إنعام محمد إسماعيل- 60سنة- موظفة بالمعاش) والسيدة (تهانى محمد زايد- 58سنة- مديرة مدرسة بقويسنا) والسيدة (هدى عبدالفتاح أبو الروس- 61سنة- موظفة بالمعاش) والسيدة (نبيلة عيسى- 33سنة- ربة منزل) والآنسة (دعاء محمد فوزى- 28سنة- وكيلة مدرسة).
وفى ختام دراستها الميدانية كتبتْ الباحثة أنّ الثقافة الشعبية، ليست بمعزل عن ثقافة المجتمع السائدة.. وأنّ الثقافة الشعبية المصرية، تتميز بالتنوع والتعدد حسب الموقع الجغرافى.. ولكن فى سياق (منظومة أخلاقية واحدة) وهى فى الريف أكثر وضوحــًـا ورسوخــًـا منها فى المدن، حيث تكاد الحدوته تختفى، بسبب سيطرة التليفزيون.. وهنا يجب على الأمهات (والآباء) تحفيز (ملكة الخيال) لدى الأطفال من خلال ثقافتنا القومية، بجانب الثقافات الأخرى.