القاهرة 11 اغسطس 2020 الساعة 10:19 ص
قراءة: عاطف محمد عبد المجيد
في واحدٍ مِنْ أَهمِّ كتبه وهو "المجتمعُ المِصْريُّ بيْنَ الثَّابتِ والمُتغيِّرِ" الصادر منذ سنوات عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، يقولُ الدكتورُ عبد المنعم الجميعي إنَّ الشعبَ المصريَّ يُعدُّ مِن أكثر شعوب العالم مُحَافظةً على عاداته وتقاليدهِ ويُدللُ على هذا بأنه رغم الغزواتِ التي تعرَّضتْ لها مصرُ ورغم تعاقبِ الأجناسِ المختلفة مِن المحتلِّين عليها فإن الغزاة وغيرهم لمْ يستطيعوا أنْ يؤثَّروا في هذه العادات والتقاليد، بل إن الشعب المصري فرض حضارته على غُزاته وجعلهم يذوبون في بوتقتها وتمكَّن المصريون من التمسك بمصريتهم ولمْ يتأثروا بالعادات الدخيلة كثيراً؛ لأن الإنسان المصري لا يزال يُشبه أجداده تمام المشابهة في طريقة معيشته وفي العادات التي يزاولها والتقاليد التي يسير عليها..فهي مصرية في شكلها وروحها.. ترتبط معظمها ارتباطاً وثيقاً بما خلَّفه لنا الأجداد على الرغم الجو العاصف مِن الآراء والنزَعات الجديدة والمخترعات الحديثة التي تلتف حولها حياةُ المصريين.
صانع حضارة
هذا ويستطرد د. الجميعي فيقول: رغم أن معجزة الإنسان المصري تتركز في أنه صانع حضارة وأنه من أمةٍ أتت في فجر الإنسانية بمعجزة الأهرام وأنه لن يعجز عن الإتيان بمعجزة أخرى إذا توافرت له الظروف المناسبة خاصةً وأنه يحمل رواسب تجارب آلاف السنين، فإن معظم صفحات تاريخه التي تعرضتْ لحياته لم تتطرق سوى لصورته في مشاكله وبؤسه وذله ومِحَنِهِ وشقائه وجهله.. مع أن هذا الشعب الذي يظنه البعض جاهلاً يبرز فيه من أبنائه في أوقات المحن في كثير من الأوقات مَنْ يوقظ الأمل ويُحيي راية الكفاح. وهذا يفسر لنا كما يرى د. الجميعي تلك اللحظات من التاريخ التي تظهر فيها مصر وهي تطفو فوق المحن بحثاً عن الحياة الحرة الكريمة. كذلك يضيف د. الجميعي قائلا:
إن الإنسان المصري قد عرف في حياته الشدة والآلام والاضطراب والخراب وشعر بقرصة الجوع واستعصت عليه لقمة العيش أحياناً وذاق حكم الأجنبيّ على كل لون لدرجة يمكن معها القول إن مصر ليست أقدم الأمم حضارةً فحسب بل هي من أكثر الدول معاناة للمحن ومع ذلك فإن هذا لا يعني أن نهمل أوقات رخاء المصريين القليلة التي يمكن أن تمثل قسطاً يسيراً من الحياة المصرية الحقيقية.
روح التفاؤل
كما لا يمكن أن نهمل دور هذا الشعب الضاحك الباكي في مواجهة ما تعرَّض له من متاعب وكيفية لجوئه إلى روح التفاؤل والسماحة.ومشيراً إلى كتابه يقول د. الجميعي إنه في هذه الدراسة/ الكتاب التي يحاول فيها وضع العربة قبل الحصان خاصةً وأن أغلب خيولنا قد بلغ من الكبر عتياً: إننا نسعى وراء الجذور سعياً وراء المنابع الأصلية للشخصية المصرية ونعرض مجموعة الظواهر الاجتماعية والفكرية المتشابكة التي تصور المجتمع المصري بطبقاته الاجتماعية المتباينة وطاقاته البشرية المتنوعة والتي تعبر عن معالم الحياة المصرية من عادات وتقاليد وأعراف موغلة في العراقة والقِدَم والتي ظلت تتناقلها الأجيال عبر القرون وتتمسك بتلابيبها.
تراث المصريين
ويُرجِعُ د. الجميعي عدم تَغيُّر عادات المصريين وتقاليدهم إلى أن الكثير من هذه العادات ترتبط إلى حد كبير بتراث المصريين وربما يصل بعضها إلى عصور الفراعنة كما ترتبط بقيمهم الدينية وعقائدهم السماوية سواء كانت المسيحية أو الإسلام.. ومن أجل ذلك ظلت القيادة الفكرية والاجتماعية في مصر حتى نهاية القرن التاسع عشر مقصورة على رجال الدين الذين كانوا موضع احترام وإجلال الناس لدرجة وصلت بالباعة أنهم يرفضون تقاضي ثمن ما يشتريه المشايخ منهم.
إضافة إلى هذا، جمع الإنسان المصري في معظم مراحل تاريخه بين دينه ودنياه دون أن يجد صعوبة في الدمج بين الاثنين. ويشير د. الجميعي إلى أن المصري مهما نزلت به النوازل يستخدم السخرية كسلاح في مواجهة المصاعب التي يتعرض لها. ويلجأ إلى النكتة لتخفيف معاناته..كما يتسم الإنسان المصري غالباً بالكرم وحسن الضيافة والألفة والمرح. ويذكر د. الجميعي أن أحوال المصريين قد ظلت تحكمها قوالب ثابتة يتمسك الدين بتلابيبها حتى جاءت الحملة الفرنسية على مصر في العام 1789 وتم التعرف على الحضارة الأوروبية بثقافتها العلمية فكانت نقمة على المصريين ولكن في طيها نعمة حيث أحدثت ما يشبه الصدمة والدهشة للمجتمع المصري وساعدت المصريين على الشعور بأنفسهم والتطلع لآفاق أخرى من المعرفة وضروب جديدة من العمران. ثم جاء عصر محمد عليّ الذي برز فيه الصراع بين القديم والجديد على أشده خاصة بعد الانفتاح على الغرب وإيفاد البعثات العلمية إلى أوروبا وافتتاح المدارس الحديثة واستجلاب الأوروبيين من الخارج للاستفادة من خبراتهم في شتى التخصصات.ثم جاء عصر إسماعيل حاملاً معه التدخل الأوروبي مما جعل حياتنا تصاب بفطام خطير. وبناء على ما سبق يرى د. الجميعي أنه يجب على المصريين أن يلتمسوا لأنفسهم طريقاً يجمع بين الموروث والوافد خاصة وأن ماكينات الحياة قد درات بتروسها وعجلاتها نحو التغيير والتطور ولم يعد العصر عصر جمود وركود وثبات وإنما عصر حركة وتطور وتغيير.
قيم الماضي
كما أن إحياء قيم الماضي وضرورة سريانها في جسم الحياة المعاصرة أصبح ضرورياً للحفاظ على الهوية وحلقة تربط الماضي بالحاضر.لذلك كان لابد من إيجاد محاولة لصياغة قوالب العصر بما يتلاءم مع ثقافتنا الموروثة خاصةً وأن ثقافتنا كانت في حاجة إلى الاستفادة من الثقافة الوافدة والإيغال في دنيا العلوم على اختلافها. ولكن الفرق كان لا يزال بعيداً بين ثقافة أقيمت على افتراض وجود ثوابت أبدية وثقافة اخرى تنبع من التطور والبحث عن كل جديد.
هذا ما يراه د. الجميعي في كتابه هذا وأتفق معه في أن الإنسان المصري هو بحق معجزة ويؤكد ذلك ما مر به من محن ونكبات خلال العصور المختلفة والأزمنة الشتى وعلى الرغم من كل ذلك مازلنا نراه وهو يتغلب على كل هذا ويتجاوزه ويعود واقفاً على ساقيه مرة أخرى وقد ازداد صلابة ليواصل من جديد مسيرة كفاحه في وضد الحياة.
ومع التسليم بأن الإنسان المصري يخضع أحياناً للهزيمة إلا أنه سرعان ما يتدارك هذا ويعود إلى ما كان عليه من عزة ومجد ومكانة مرة أخرى.