القاهرة 09 اغسطس 2020 الساعة 10:52 ص
بقلم: سماح ممدوح حسن
"أنا مثلهم، لا شيء يُعجبني، ولكني تعبت من السفر"
فى مثل هذا اليوم (9 أغسطس، 2008) توفي محمود درويش. عندما أقرأ قصائد محمود درويش، المعنية بالمقام الأول بالإنسان، فلا أراني إلا وأنا أتخيل أن هذا الإنسان ما هو إلا شجرة نبتت من الأرض، وتشعبت فروعها فى الحياة بكل معانيها.
مشروع محمود درويش
فى ظني أن عظمة محمود دوريش وبقاء شعره لم يأت فقط من النظم للقضية الفلسطينية، ولا الحنين ولا الأرض والإنسان فحسب، لكن هناك إضافة مهمة انفرد بها درويش ألا وهى "مشروع محمود درويش الشعري" فلم يكن مجرد شاعر عبقري امتلك أدواته، من انتقاء المفردات والكلمات، وحتى الأفكار، لكنه هو من أوجد فى الشعر العربي بُعدا جديدا. فشعر درويش "الحداثي" يمكن لأي كان قراءته والتأمل فيه والتلذذ به. فحداثة شعر درويش لم تكن تلك التى لا يزال الكثير من الشعراء متمسكين بها، مما جعل قصائدهم لا تزال حبيسة ضفتى غلاف الديوان، لكن درويش الذى كتب للأرض والزرع والإنسان، كان همه الأول وهو يكتب أن يقرأه هؤلاء المعمرون لقصائده، السائرون فى الشوارع، ومستقلو الحافلات، الفلاحات.
استطاع أن يربط الإنسان بماضيه وحاضره، ورغم الآلام استطاع أن يطمح فى مستقبلا. فالإنسان والأرض والوطن لم تكن عند درويش أيقونات يتحدث عنها ما يسمى بالنخبة الثقافية.
من لم يقرأ كتب التاريخ، لكنه قرأ شعر محمود درويش عن القضية الفلسطينية، فربما هذا يكفيه، وجدانيا. فلم يأت شاعرا يتحدث عن القضية الفلسطينية كما فعل درويش الذى تيتمت القضية من بعده على كثرة من تبنوها، شعريا.
تجسيد الخيال قصيدة درويش
قصائد درويش التى يمكن القارئ رسمها وصنع صورة مجسدة منها فى ذهنة، مثلما يقرأ قصيدة "لا شيء يعجبني" التى بدأنا بها المقال. فالقصيدة تحكي عن ركاب الباص الذين لا يعجبهم شيء من الكيانات المصنوعة كالراديو، والصحف الصباحية، وحتى الكيانات الطبيعية كالتلال والقلاع. وبعدها يحكى عن الأفراد الموجودين فى الباص وما الذى لا يعجبهم. السيدة والطالب الجامعى والجندي، والسائق العصبي، ومن خلال اسباب عدم إعجابهم بشيء نستنتج الخذلان الذين مروا جميعا به وجعل لا شيء يعجبهم، حتى نصل إلى الراوي نفسه والذى لا يعجبه أيضا شيء وحينها يمكننا أن نستنج أن الشاعر (أكبر مناضلى القضية الفلسطينة) خُذل بكل الاختلالات التى مرت فى القضية، فتعب هو أيضا وطلب النزول أو الاستسلام.
شاعر الفصحي المعروف كشعراء العامية
هناك ميزة فى شعر محمود درويش ربما انفرد بها عن غيره، وهى شعره الذى يجرى على ألسن العامة كما شعر العامية. ربما هى قاعدة غير مكتوبة، لكن جرت العادة على حفظ الناس شعر العامية وغنائه وتداوله فى حياتهم اليومية فى العمل والجامعة والمدارس والشارع حتى، لكن لم يكن لشاعر يكتب بالفصحى أن يتغنى الناس ويحفظوا ما يكتب غير محمود درويش. فكل من يتكلمون العربية يحفظون سجل أنا عربي، والجميع عاش حكاية الحصان الذى تُرك وحيدا ليؤنس البيت، وأرجع للجميع حنينهم إلى خبز أمهاتهم، وتمسك الكثيرون بالحياة حتى آخر قطرة. الفتيات اللاتي سيتذكرن أنهن كلهن جميلات كن قصيرات أو طويلات سمروات أو شقراوت، وانتظر العشاق حبيباتهم بكأس اللازورد، ورغم كل الإحباطات ما يزال فى صحونكم بقية من عسل، ومازال هناك أمل.
ولكل هذا سيعيش محمود درويش ألف ألف عام أخرى ولن ينتصر عليه الموت أبدا.