القاهرة 07 اغسطس 2020 الساعة 10:56 ص
حوار: زينب عيسى
شائعة وجود ابنة شرعية لمحمود درويش نوع من المزايدة الثقافية
محمود درويش كان سببا في نقل تسجيلي للدكتوراة من جامعة لأخرى
تمر هذه الأيام ذكرى وفاة الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش أحد أبرز الشعراء العرب الذين أضافوا إلى الأدب العربي بعدا إنسانيا وطنيا، حيث عبرت قصائده عن عدالة القضية الفلسطينية ويجعلها في حالة تواصل مع الحياة والأرض، حيث برع في توظيف الخصوصية لتتحول إلى قضية عامة من خلال دلالات رمزية ميزت إبداعه الرفيع الذي يعد تعبيرا عن مكانته المرموقه وإنجازه الشعري المرتبط بمرحلة تاريخي، لقضية ارتبطت بمصير أمه.
ومحمود درويش قرأ الأدب العبري قراءة واعية تتوازى مع إطلاعه على الأدب العربي بما يكشف ثقافته الموسوعية البعيدة عن مصطلحات تحدد منجز المبدع في صور نمطية ورؤى ضيقة الأفق، وهو ما منح شعره زخما كبيرا، وتم ترجمة قصائده إلى لغات مختلفة، و حصل على العديد من الجوائز، مثل: جائزة الّلوتس، وجائزة ابن سينا، وجائزة لينين، والعديد من الجوائز الأخرى العالمية، والأوسمة.
حول رحلة محمود درويش الشعرية والحياتية والفكرية دار الحوار مع الشاعر والباحث الدكتور حاتم الجوهري الذي كشف عن عالمه الشعري والثقافي بتناقضاته وتحولاته، ورأيه في حضور درويش في الثقافة العربية وحقيقة وجود ابنة غير شرعية له وغيرها من الإشكاليات الثقافية فقال:
بداية؛ هناك في مصر وربما العالم العربي مواسم تنشط فيها بعض الأشياء بـ "صورها النمطية" وقوالبها الجاهزة، وما يشبه الحمى النفسية الجماعية التي قد تصيب البعض سنويا أو تنشط مع بعض الأحداث، منها مثلا موسم الليبرالية المتطرفة وبناء شواهد قبور بطولية ونضالية لكل ما هو مخالف لطبائع الأشياء مثل: شذوذ الميل الجنسي، أو الإنجاب العرفي خارج مؤسسة الزواج الرسمي وصب اللعنة على طرف بعينه. وهناك مواسم أخرى يمكن تسميتها مواسم جلد الذات، وتكون سنويا مع هزيمة عام 1967م مثلا وذكرى الوحدة مع سوريا عند البعض، وعند البعض الآخر قد تكون ذكرى انفصال مصر عن السودان، وميلاد أو وفاة الملك فاروق آخر ملوك مصر سليل أسرة محمد علي.
وهناك أيضا مواسم للمزايدة الثقافية كما في حالة بعض الشخصيات العربية، خاصة إذا تعلق الأمر بموضوع يخالف التراكم والتواتر المصري والعربي السياسي/ الثقافي، ويأتي في هذه الفئة موضوع وجود ابنة غير شرعية لمحمود درويش، في موجة جديدة من المزايدة الاستقطابية معه وضده في الآن نفسه.
كيف تنظر أنت إلى محمود درويش بصفتك باحثا في الأدب العربي والأدب العبري، ومبدعا تكتب الشعر بالأساس، وهل كانت لك صلة أكاديمية أو بحثية به وبإنتاجه الشعري؟
سأخبرك بسر أذيعه للمرة الأولى؛ محمود درويش كان سببا في أنني نقلت تسجيلي للدكتوراة من جامعة إلى جامعة أخرى بمصر، منذ عقد كامل من الزمن وبعد أن حصلت على الماجستير بتفوق في رسالة طبعت بعنوان "خرافة الأدب الصهيوني التقدمي" وصفها البعض بأنها نقلة معرفية في تخصص الأدب العبري من حيث المصادر والمنهج والنتائج وتأثيرها المركزي المستمر، أردت أن تكون رسالتي للدكتوراة مقارنة بين أدب المقاومة وأدب الاحتلال من حيث المداخل والمخارج وعناصر التأثير والتأثر المتبادلة، واخترت محمود درويش نموذجا لرسالتي مقارنة بشاعر عبري آخر تراوح بين يهودا عميحاي ودافيد أفيدان. أردت أن أستكشف نماذج جديدة بعيدا عن يتسحاق لاءور الشاعر الذي اتخذته نموذجا لرسالة الماجستير؛ لكن الأمر قوبل برفض شديد وصراع إداري حامي الوطيس بين الأقسام العلمية، لرفض البعض أن يتناول تخصص اللغة العبرية جانب الأدب المقارن.
إنما شجعني أحد الأساتذة -رحمه الله- على الانتقال وتسجيل موضوع المقارنة الأدبية في كلية الآداب بجامعة عين شمس، لكن الأمور لا تسير دائما وفق الأمنيات، قوبل الموضوع مجددا بالرفض والتعنت الشديد، ولم يستطع رحمة الله عليه تمريره في القسم، واستقر الأمر على تناولي لفكرة جديدة تماما أيضا تبحث في ظهور تيار العدمية في الأدب الصهيوني وجذوره الثقافية والفكرية، لكن بعد ذلك تم فتح الباب للدراسات المقارنة، إنما مع توجه تبناه البعض أقرب لما هو شكلاني ظاهري وما بعد حداثي–وإن كنت اعتقد طبعا في وجود أساتذة وباحثين أكثر تفحصا وتعمقا في تناولهم للأدب المقارن ببعده الثقافي لا الشكلاني- هذا التبني الشكلاني يفتقد لمهارت التأسيس والبحث عن الجذور الثقافية في الأدب العربي، ومقارنته بالأدب العبري أو الصهيوني، رغم وجود جهد يحترم للجامعات الفلسطينية في الأدب المقارن بين الصهاينة والفلسطينيين لم يقف عليه البعض..
حيث قصر البعض نفسه على دراسة أساليب الأدب والشعر، واعتبر أن تناول المضامين الأدبية والأنساق الثقافية للشعر العربي والصهيوني هو نوع من الأيديولوجيا دون حتى أن يكلف نفسه عناء تعريف ما الأيديولوجيا؟ ولم تصله مفاهيم النقد الثقافي أو دراسات ما بعد الكولونيالية في الأدب العالمي أو المناهج البنية العابرة للتخصصات! ويميل للظاهراتية والانطباعية ويختزل الأدب عامة في الشكلانية وبعض تمثلات الأسلوبية! بعض الباحثين رغم اشتغالهم بالآداب الأوربية أو التي تأثرت بها، إلا أنهم مقلدون لمدارس النقد الرائجة في مصر وما قد تستقطبهم به من جوائز، أو تسكين في بعض المساحات الثقافية النمطية، أو لمقابلتها هوى في تكوين بعضهم أو شخصيته الانطباعية، وهو ما جعل بعض الدراسات تخرج مرتبكة معرفيا، وتحاول مغازلة طبقة ثقافية معينة في مصر والعالم العربي، طبقة أصيبت باليأس بعد هزيمة المشروع العربي القومي في الستينيات، وأنتجت تيارا أدبيا منذ السبعينيات -وتطور في التسعينيات- يقوم على أفكار التحلل من القيم الكبرى وسردياتها، والتخلي عن طموح الجماعة العربية والمصرية في استعادة الذات، وأصبحت تيارا تابعا للمركزية الأوربية يردد مقولات ما بعد الحداثة عن الفصل بين الفن وآلياته، وبين مضمونه والمقولات التي يحملها.
في رأيك؛ ما السر الذي قد يحمله عالم محمود درويش الشعري، بعيدا عن المواضيع الشخصية، وما سر الارتباك والخلط في فهم الموقف الشعري والوجودي والمعرفي عموما لمحمود درويش عند البعض حتى الآن؟
ما لم يقف عليه بعض الباحثين في الدراسات العبرية والعربية – وظل بعيدا عن وعي النخبة العربية حتى اللحظة، هو علاقة محمود درويش بتيار "الصهيونية الماركسية"، وعلاقة الصهيونية الماركسية كتيار رئيسي في الحركة الصهيونية بنشأة اليسار الفلسطيني المبكر في الربع الأول من القرن الماضي، قولا واحدا اليسار الفلسطيني المبكر في بدايات القرن الماضي، أنشأ كوادره اليسار الصهيوني على أفكار "الصهيونية الماركسية"، عن وطن يجمع يهود أوربا وعرب فلسطينيين معا تحت شعارات دولة بوليتارية تشارك في النضال العالمي ضد الرأسمالية. وأكد "لينين" على المشروع وباركه وفق مجموعة من الاشتراطات في اجتماعات الكومينترن (المنظمة الشيوعية العالمية آنذاك)، ثم تطور الوعي الفلسطيني اليساري بدرجات متفاوتة وصلت حد المقاومة المسلحة، وتفاوتت ما بين الانشقاق السياسي عن أحزاب الصهيونية الماركسية، أو البقاء داخلها والنضال من أجل إصلاحها..
محمود درويش كان اختياره متشددا –لسماته الشخصية- حيث هجر الفكر العمالي "الصهيوني الماركسي" العابر للقوميات النافي للهوية، وتبنى الفكرة القومية وهويتها العربية وهاجر خارج فلسطين المحتلة، لكن ظلت بعض التناقضات المضمرة كامنة وموجودة في شخصيته، وانعكست بالطبع على اختياراته الشعرية (كمضمون) وأسلوبه الشعري (كشكل)، على مستوى المضمون ظل درويش متأرجحا بين الطرح العابر للقوميات الذي يميل لفكرة الإنسانيات المشتركة عموما كتطوير منه لفكرة التنميط الماركسية ورفضها للتمايز الثقافي والهوياتي، وبين الطرح القومي العربي (الذي كانت إحدى أبرز تمثلاته قصيدة "سجل أنا عربي") أيضا كرد فعل على تيقنه من فشل وتشوه مشروع الأيديولوجيا الماركسية في طبعته الصهيونية، ولقد كتبت مقالات نقدية عددية ومتنوعة في درويش وفي اليسار الفلسطيني، كما تناولت الموضوع أكاديميا في دراستي للماجستير التي نشرت في طبعتين، مرة بعنوان "خرافة الأدب الصهيوني التقدمي"، ومرة بعنوان" خرافة التقدمية في الأدب الإسرائيلي"، وحصلت على جائزة ساويرس في النقد الأدبي في دورتها الأولى عام 2014م.
أتقصد أن هناك مشكلة في توفر المصادر التي تتناول تلك المساحة التاريخية، رغم مرور كل هذا الوقت الذي يقارب قرنا من الزمن، أم أن المشكلة حسب كلامك هي ارتباك المنهج العلمي والتناول، والفصل المعرفي بين النسق الثقافي العام والكامن عند درويش والثقافة الفلسطينية، وبين المنتج الأدبي وتناول فنياته وعتباته النصية؟
أصبت كبد الحقيقة؛ الارتباك حاضر في المنهج بالأساس، والجرأة في تناول المصادر البحثية وعدم تكرارها، حاليا المصادر مفتوحة ومتعددة للغاية؛ لكنها تتطلب امتلاك مهارات "الباحث الافتراضي"، باحث صاحب رؤية مدمجة تقوم على المعرفي والثقافي والفكري الشامل حتى يعرف ما يبحث عنه، أقصد بـ "الافتراضي" الباحث الذي يجيد التعامل مع شبكة المعلومات المفتوحة ويملك شتى الحلول في قدرته على تطويعها، وأن يثق في منهجه ولا يخاف من تتبع موضوعه البحثي وفرضياته مهما بدت مغايرة للسائد، وذلك هو مربط الفرس في شخصية الباحث؛ أن يقف وراء موضوعه إذا كان على يقين من صحة إجراءاته المنهجية وتعدد مصادره، لا أن يقف مع السائد ويحاول أن يسير في الركب.
من ناحية المنهج وارتباكه في التناول فسأكتفي هنا بمثال بسيط، التناول الأدبي الأكاديمي مهما اختلف ينقسم لشقين: الشكل والمضمون، تحت هذا التقسيم الثنائي الأكاديمي يأتي العديد من المداخل النقدية الشائعة في الوسط الأدبي والثقافي، فمثلا الأسلوبية وعتبات النص والبنيوية والشكلانية والبنية الموسيقية والبلاغة النصية والتناص والصورة الشعرية، إلخ.. كلها تندرج في جانب الشكل، أما مثلا المقولات الشعرية والقيم الإبداعية والاتجاهات الوجودية ومضامين الأرض والوطنية والحبيبة والروح والدين، وما إلى ذلك فإنها تندرج تحت شق المضمون. لكن البعض يمارس عملية الابتسار ويفصل بين شقي البحث الأدبي.
هل المناهج التي تتناول الأدب في جانبي الشكل والمضمون ميسرة وسهلة التطبيق، وهل هناك مناهج تربط بين الشكل والمضمون، وكيف تختلف مهارة باحث مقارنة بآخر في استخدام المنهج ذاته، وباستخدام المصادر أو المراجع نفسها؟
هناك مناهج نوعية تتطلب قدرات خاصة ومتراكمة لدى الباحثين وهي المناهج الكلية والسياقية والثقافية، مثل مناهج الدراسات البينية والثقافية والحضارية للأدب التي يمكن أن تنتج علاقة بين عناصر الشكل والمضمون معا، حال اجتهاد الباحث في ذلك وقوته معرفيا في مجموعة مهارات تشمل: المعرفة الموسوعية والتحليل النفسي، والوعي الثقافي وقوة الحس اللغوي العام والمقارن، والفهم التاريخي لعلم الإنسان (الإنثروبولوجيا) ونظريات المعرفة ومساراتها الاجتماعية، باحث مثل هذا يمكن أن يقدم فرضية ويختبرها ويخرج بنتيجة نظرية قابلة للتعميم؛ لكن هناك مناهج إجرائية ونمطية ظاهراتية تقف عند المستوى الأول الذي يقوم على الحصر والوصف لفكرة ما، دون وضعها في سياقها الثقافي والتاريخي والاجتماعي، وهذه مناهج تصلح للباحث غير القادر على التفكير على مستوى متعدد ومتداخل بشكل ثقافي متكامل.
دعيني أضرب لكِ أمثلة على أفكار بحثية توضح علاقة الشكل بالمضمون في الدراسات الثقافية والبينة والحضارية للأدب، مثلا: أثر البنية النفسية (كمضمون) أو الحالة الشعرية على لغة الشاعر (كشكل)، أو أثر الاتجاه الوجودي (كمضون) على اللغة الشعرية التقريرية أو اليومية أو النثرية (كشكل)، أو أثر المدرسة الأدبية (كمضمون) على التقنيات الشعرية المستخدمة (كشكل) مثل البريخيتية في الشعر مثلا واستخدام التقنيات المسرحية، أو أثر العزلة والانسحاب العام مثلا (كمضمون) على المعجم الشعري ومفرداته (كشكل)، أو العلاقة بين التحسر وحالة الفقد (كمضمون) وتقنية الاسترجاع أو الفلاش باك (كشكل)، أو الاختيارات السياسية بين الانقطاع الجماهيري والاتصال (كمضمون) وأثره على موسيقى الشعر ولغة الخطاب (كشكل)، أو السياق الاجتماعي والتاريخي والثقافي (كمضمون) وأثره في تشكل الاختيارات الشعرية العامة كمقولات وكتقنيات..
ما سبق هو ذروة الدراسات الكلية أو الثقافية أو البينية للآداب، التي تتطلب نوعية خاصة من الباحثين يستلزم إعدادهم جهدا خاصا وطويلا في اختبار الملكات الفكرية الفطرية، والقدرة على التفكير العقلي الإبداعي على أكثر من مستوى متداخل في الوقت نفسه، الأمر يشبه وجود لوحة فنية تتكون على سبيل المثال من عشرين جزءا، هناك باحث إحصائي قدراته ستقف عند حصر الألوان المستخدمة في العشرين جزءا، ووصفها وصفا دقيقا رائعا لكن بمعزل عن السياق العام للوحة، كأن يتأفف من قتامة لون أحمر داكن في جزء، بالمقارنة بلون برتقالي ساطع في جزء آخر، ربما يكون رأيه إجرائيا أو لونيا دقيقا؛ لكنه بمعزل عن الصورة الكلية للوحة، حيث قد يقصد الفنان بالأحمر الداكن الموت والدماء، ويقصد بالبرتقالي الشمس والحياة، هنا أخطأ الباحث الإحصائي في فهم العتبة اللونية للوحة، ودورها الكلي في العمل الإبداعي ومضمونه.
وللحوار بقية ..