القاهرة 28 يوليو 2020 الساعة 12:02 م
كتب: محمد علي
في الجزء الأول يقدم عكاشة شخصياته بصورتها الإنسانية دون تعمق لما ترمز إليه الشخصية التي تظهر على الشاشة؛ فقط يُقدم تمهيد للحقبة الزمنية التي يبدأ منها العمل -الجزء الأخير من الحياة الملكية في مصر- ويظهر هذا في الكتابة الدقيقة عن حياة الباشوات والعامة حينذاك وطرق ممارسة الحياة لكل منهم. مع التأكيد على الحبكة الدرامية للمسلسل والتي تكمن في الصراع فيما بين سليمان عبد التواب غانم (صلاح السعدني) والذي يترك بلدته في البحيرة ويأتي للقاهرة للسكن في الحلمية حتي يتثنى له الأخذ بثأر ابيه من سليم البدري (يحي الفخراني)؛ حتي يبدأ العراك بينهم سريعًا بعدما تمكن الأول من الحصول على نسبة من الأسهم التي تخص مصنع الأخير. للوهلة الأولي ودون تعمق فيما يقصده عكاشة من الاساس قد يظهر هذا العراك والتنازع فيما بين الاثنين على أنه صراع بين التحضر في المدينة التي لا تعبئ كثيرًا بأفكار قد تكون متخلفة بعض الشيء عند أهل الريف، لكنه في اي حال من الأحوال هو تصور سطحي لا يوجد ما يؤكد عليه في الاجزاء الخمسة والذي استمر فيهم النزاع بينهم بكونه هو المحرك الأول والرئيسي لكل أحداث المسلسل؛ بدايةً من حصول غانم على حصة من اسهم مصنع البدري مرورًا بتسبب الأول في انفصال الثاني عن زوجته نازك السلحدار (صفية العمري) بعد أن افشي له سر زواج سليم البدري من أمرأه اخري من عامة الشعب ومن بعد ذلك زواج غانم منها. وفي الأجزاء الأربعة تظهر اهمية العمل البحثي لأسامة أنور عكاشة وذلك بإضفاء العديد من الرتوش على شخصياته التي ضافت أبعاد محددة لهم يظهر فيها جزء هام واصيل من شكل وماهية الحياة المصرية في ازمنة مختلفة بدأت من الملكية ووصلت الذروة فيها مع عصر عبد الناصر والسادات، وبدأت تأخذ منحني آخر أقل رمزية في الجزء الاخير الذي يصور الحياة المصرية في سنوات مبارك الأولي.
بالتأكيد لن نتناول المسلسل هنا بكامل تفاصيله وإنما نحن هنا بصدد التطرق لبعض من الشخصيات التي يتضح فيها الرمز ومنه نحاول أن نعي ونفهم كيف استطاع عكاشة تقديم السردية الأهم في تاريخ التلفزيون المصري بشكل أنثروبولوجي لم يخلو من الحبكة الدرامية والتي هي أساس أي عمل فني، فكيف نجح في ذلك أو بالأحرى ما الذي قد دفعنا بأن نتكهن بذلك؟ ذلك سوف ما اقوم بالحديث عنه في هذا المقال، وذلك بعدما كُنا قد وضحنا في المقال الأول عن الضرورة الحتمية التي قد جعلتنا نقوم بتناول العمل بكونه دراسة انثروبولوجيا في المقام الأول.
من أهم ما ناقش السيناريو هو العلاقة فيما بين البروليتاريا والبرجوازية؛ ويعبر عن ذلك التفاوت فيما بين طبقات المجتمع من خلال مشاهد وشخصيات عدة منها طائفة عمال المصنع الذي يمثلهم كل من العامل زكريا ومعه بقيه العمال الذين منذ ظهورهم وهم يعبرون عن هموم تلك الطبقة في مواجهة الرأسمالية الممثلة في صورة الطبقة البرجوازية التي تستهدف جمع المال فقط دون احترام او تقدير لما تبذله تلك الطبقة من جهد. ومع مرور الحلقات تبدأ بلورة الفكرة أكثر حتي تناقش بشكل خاص جدًا يعير عن بشكل أكتر حضاري يحاول فيه القاء الضوء على التطورات التي لحقت بالمجتمع بعد 1952 وذلك بالعلاقة فيما بين (عادل البدري و قمر زينهم السماحي) والذي كان قد جمعهم قصة حب نتج عنها زواجهم الذي كان مرفوض رفضًا باتًا من أهل الأول الذين لازالوا يعيشون في عصر ينظر للطبقة الاقل منه على أنه صف ثاني وثالث في المجتمع لا يصح الزواج منها حتي لو كانت تلك الطبقة قد خرج منها نموذج يحتذي به كما هو الحال في شخصية قمر التي ظلت تسعي في الحياة وواصلت تعليمها إلي أن أصبحت تدرس في كلية الآداب بعد حصولها على شهادة الدكتوراه؛ إلا أن كل من نازك السلحدار وسليم البدري ظلوا يرون أنه ستظل بنت للقهوجي والعالمة.
فيما بين جمال عبد الناصر والسادات والتغيير الذي طرأ على المجتمع المصري قام عكاشة بتصور ذلك التطور من خلال قهوة الحلمية التي شهدت على ذلك من خلال تصوريها وهي منبر لحركة الشارع الثورية والفكرية بعد 1952 بكونها كانت تحتضن جلسات النقاش الفكري والسياسي فيما بين الجميع بمختلف الطبقات وبزيادة معلمها وصاحبها زينهم السماحي وكيف له أن تأثر وتغير مع 1952 وظهر ذلك على القهوة كما قد أشرنا، وبين صبيه الذي عاش حتي عصر السادات وتحديدًا في وقت الانفتاح الاقتصادي وقرر أن يغير شكل القهوة كليًا في ذاك الوقت واصبحت القهوة مكانًا للتجارة وتغير حتي اسمها وباتت تعبر عن العصر والشكل الجديد للمجتمع المصري.
ولم يغفل عكاشة دور الفدائيين في فترة الاستعمار وحتي الجلاء مسلطًا الضوء عليهم طوال تلك الفترة من خلال الشخصية الاساس لهذا الدور (طه السماحي) والذي ظل يحلم بمجتمع مثالي اشتراكي يتأخى فيه الجميع لا فروق طبقية فيما بينهم وعلى ذلك قد تزوج من ابنة لواء القلم السياسي عبد الفتاح سلطان من وراء الاسرة حتي وصل ناجي ابنهم الذي عبر عن المثالية في مجتمعنا المصري وعن ضرورة وجود مثل تلك الشخصيات وتأثيرها في المجتمع. كما أنه اظهر الوجه المخالف لذلك من خلال كل من شخصية بسة والخمس الذين ظلوا يسعوا طوال المسلسل في جني ثورة ضخمة على حساب الشرف والمبادئ والوطنية.
وفي النهاية يعد أبطال العمل الحقيقين -على الأقل بالنسبة لي- هما شخصية (علي سليم البدري و زهرة سليمان غانم) والذين وعلى رغم المشاكل التي لا تنتهي بين العائلتين إلا انهم قد وقع كل منهم في غرام الثاني إلا أن الحياة رفضت أن تجمعهم ببعضهم البعض في بداية عمرهم حيث وقع علي في مشكلة سياسية دخل على أثرها السجن في قضية مراكز القوي التي عرفت في مصر السبعينات وتزوجت زهرة من رئيسها في الجريدة وباتت حياة علي سوداء لحد كبير وفيه يرمز عكاشة لجيل ثورة 1952 الذين تفتح وعيهم عليها وعاشوا يحلمون بجني ثمارها لكنهم فاقوا على حقيقة مؤلمة في هزيمة 67 وعندما عادوا لحلمهم ذلك تفاجئوا مرة ثانية بانهم ليسوا سوي ادوات تحركها الايادي الضخمة والخفية في المنظومة لتفيد أغراضهم السياسية ليس إلا. وعندما عرف ذلك تحول علي للنقيض تماما حتي أنه وبات مثل أبيه رأسمالي تتحكم فيه شهوة الاموال والعمل والتجارة وبات الإمبراطور الاول للتجارة في مصر. كانت رحلة علي البدري كما اشرنا تعبر عن انهزامية جيل 52 في كل صورها البصرية الممكنة.
ختامًا: استحق مسلسل ليالي الحلمية أن يكون من اهم سرديات الدراما المصرية في التاريخ التلفزيوني المصري/العربي لما تطرق فيه لوصف المجتمع المصري في ازمنة مختلفة ومتتالية في سياق زمني سلس تنتقل فيه عكاشة من اخر الأربعينات وحتي منتصف التسعينات.