القاهرة 23 يوليو 2020 الساعة 06:43 م
كتب : محمد أبوزيد
دُعيت مُصادفة منذ فترة لحضور مناقشة رسالة الماجستير لصديق لي وبالفعل ذهبت وكان لها من الأثر العظيم في نفسي، لم يكن نجاح الصديق أكثر من لحظة حصاد أعوام كفاح وتعب لأم بسيطة كانت تعمل حارسة العقار المقابل منذ أكثر من عشر سنوات.. أب متوفي، وابن وحيد وهي وحدها تحملت الكثير من أجله سخافات وتعالي، جهد ومشقة لتلبية احتياجات ومتطلبات اثنتى عشر اسرة بأولادهم وضيوفهم، هذا غير متطلبات نظافة العقار، كل هذا لم يمنعها ابدا من التركيز مع الأبن الذي مات أباه وهو بمرحلة الاعدادية، وقد أصرت وهيأت له كل السبل لكي يكمل المسيرة، ولم تسمع لأصوات من حولها ..
" ما تقعديه منها خليه يساعدك " وآخر " يعني هيطلع دكتور ياخي" وآخر هددها بالرحيل بعدما قطعت مايزيد عن عقد من الزمن حيث قال " بقولك ايه لو مش هتقدري امشي منها، كل شوية مع الواد في المدرسة" إلخ من هذه الأقاويل.
وفي المقابل كان من يراها مكافحة، يساعدها بكتب الدراسة للعام الذي قضاه ابنه أو إبنته، أو تتحايل على أحد السكان بتلبية الكثير من الطلبات المنزلية مقابل احتياج ابنها لتوضيح لبعض المسائل الصعبة، هذا لم يمنع حنيتها ودعمها له بكلمات، شطور يا دكتور، وذلك كان في مرحلة الاعدادية، ولم تقف عندها، وكلمات أخرى كان لها قطعا أثرها في تشجيعه، لم تملك علمًا، ولا ثقافة، بل جهد ومشقة، وكلمات تشجيع وثقة، ومحبة.
أحيانا كنت اتفكر لم تفعل هذا؟! وتبكي وفاة زوجها، أو تستمع للأصوات المطالبة لها بأن يترك الدراسة ويعمل معهم مما يرون منن الذكاء وتحمل الشقاء مثل أبيه؟ لكنها أبَت، وأدخلته الجامعة، وبالطبع كان يعمل مع الدراسة ويساعدها بحب حتى آن الآوان، وفي ذات صباح انتقلا بعد تخرجه بسنوات، اليوم هي تشهد حصاد كل هذا.
في المقابل الآخر هناك جار آخر كان يشاركنا اللعب، كنا نلقبه بال " فنان " لأنه كان فنان يرسم بشكل دقيق ومقلد للفنانين باحترافية، كان ساخراً لأبعد الحدود وكان يكتب قصص طفولية بارعة، ولكن بالتدريج ومع الأسف بدأ يفقد كل هذا رغم أن أهله ميسورين الحال ماديًا، لكن للاخ والأم رأي آخر، كل من لهم عداء معه ولعب مع أبناءه، اقصد الفنان سابقا، يُلطم على وجهه ويقال له" ملكش دعوة بيهم دول مش بيحبونا، أو دول بيحقدوا علينا"هذا غير عقاب على أخطاء كانت بديهية بالنسبة لسِنه، ومع أن كان أخاه كان متعلما إلا أنه ذات يوم ضربه "بترابيزة " المكواة أمامي، وفي مرة أخرى رَشق " سَبت العيش" في رأسه !
كبرنا أصبح الأول كما اخبرتكم طبيبا، والأم جلست لتأخذ راحتها من شقاء الأيام، أما هذا الفنان سابقا، فقد قُتلت مواهبه اإنطفأ نور وجهِه البرئ، وتَحّول لحاقد ليس على الآخرين فحسب، بل انقلب السحر على الساحر، ومَقت أخاه وأمه، حيث لم يوفرا له ما وفره الآخرون لأقرانه، وهذا غير ثأر ما مات بداخله، وعمل اخيرًا بعد مرحلة " الصنايع" كهربائي، كل همه جمع المال، وعلى الجانب الآخر السخرية من ذاك الطبيب ومُعايرته في غيابه، لأن أمه كانت حارسة عقار بكلمات مثل " يدي الحلق..." .
هذا ما جرى في آن واحد لشخصين، مع مرور الزمن والأيام، أحدهما تم دعمه بكلمات الحب والتشجيع، والآخر تم زرع الحقد والبغض والتهاون بموهبته، لم تكن حارسة العقار على علم ولا تملك المادة لكنها تعلم فقط أن العلم وحده يكفي أن ينتشل ابنها مما فرض عليها هي وابيه، أما الأسرة الأخر فبها أخ وأم متعلمان ويعلما قيمة الموهبة ولكن الحقد الذي بداخلهم قتل ما بداخله ، فربما كان يصبح فنان أو كاتب او ممثل أو رسام كاريكاتير ذو شأن.
لا تُدخلوا أولادكم في صراعات وتراكمات نفسية ليس لهم فيها ذنب ولم يقترفوها أو كانوا سببا فيها، أعلم أن الكثير من آباءنا وأمهاتنا الأفاضل يبذلون جهودا كبيرة، لكن رفقًا بالأبناء وقت النصح فما أثقل النصيحة على النفس، وهم في النهاية لهم تجربتهم الخاصة فلن يكرروا تجربتكم ولا تنتظروا أبدا ذلك، واتركوهم للحياة تعطيهم وتأخذ منهم، وكما يقول جبران خليل جبران:- أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة ..