القاهرة 21 يوليو 2020 الساعة 11:50 ص
بقلم: د. محمد السيد إسماعيل
اعتمد الشعر فى مراحله الأولى على الشفاهية وتفعيل حاسة الاستماع حيث كان الشاعر "يلقى" قصيدته فى محفل ويتلاقاها الجمهور استماعا ومع تطور حركة "التدوين" واتساعها انتقل الشعر والآداب عامة إلى مرحلة الكتابية وأصبحت العين هى حاسة استقبال النص ومطالعته ومع العصر الحديث لم يعد الشعر هو فن العربية الأول فقد زاحمته الرواية والسنما والمسرح فى بعض المراحل وكان على الشعر أن يتداخل مع هذه الفنون وأن يستعير تقنياتها.
و "متاهة المونتير" لفريد أبو سعدة مثل واضح على تداخل الشعر والسينما بدءا من عنوانه اللافت والذى يلبس فيه الشاعر قناع " المونتير" معبرا عن متهته الأخيرة بين ماضيه الملح على ذاكرته وحاضره العاجز الذى يقوم على استدعاء الماضى بالصورة التى يستهويها كما لو كنا أمام فعل "مونتاج" يعيد ترتيب الأحداث بناء على رغبات الذات.
وهكذا يبدو الماضى زمنا محوريا فى هذا الديوان ومن الطبيعى أن يكون الراحلون أكثر حضورا فى وجدان الشاعر.. هؤلاء الراحلون الذين يؤنسون وحدته ويشجعونه على المضى فى "هذا الجحيم" – جحيم الحاضر– واللافت أن استعادة الماضى لا تمثل حالة من " النوستالجيا" بل موضوعا للتأمل والتوجيه على الصورة المرغوبة وهو مايتضح فى قصيدة "عزاء": "ليس لدى سوى رغبة واحدة/ واحدة يا الله/ أن تهبنى القدرة على تصحيح لقطات الماضى/ أعطنى ياالله موهبة وقدرة الفوتوشوب/ لعلنى أرى حياتى السابقة فى لقطات معدلة/ اعتبرها عزاء يا الله/ عزاء عن العمر الذى مضى فى الجحيم" ("متاهة المونتير" فريد أبو سعدة.. الهيئة المصرية العامة للكتاب 2017).
فالشاعر –أمام هذا الجحيم الذى توالى العمر فيه– لا يملك سوى مجرد الرغبة فى تبديل بعض مشاهده بحيلة "الفوتوشوب" ليجعل منها –بالخيال– "لقطات معدلة" فحسب، ومع ذلك تظل سطوة الماضى أو لنقل كوابيسه مهيمنة على خيال هذا المونتير فما إن يبدأ بلقطة مثيرة يستحضر فيها حبيبته جالسة على حرف السرير حتى تهاجمه لقطة أخرى لا يعرف زمانها ومكانها حين يجد نفسه فى طريق مقفر على جانبيه زهور برية يكتشف وهو يحاول قطفها أنها "تنمو من أعين وأفواه جماجم" فالمونتير –على العكس مما كنا نتصور– هو الخاضع لتداخل اللقطات، ويبدو الشاعر/ المونتير فى بعض القصائد راويا تقريبيا يستحضر المتلقى ويسركه فى إنتاج الدلالة : " الذى حدث أننى (كشاعر ملهم كما تعرفون)/ كنت ليلتها أكتب قصيدة عن امرأة ووضعت أوصافا لها، تعرفون خيال الشعراء".
فنحن أمام سرد يصف حالة ماضية تتخلله هذه السطور الاعتراضية الموجهة إلى القارئ والتى تركز على تيمة الخيال بوصفه أداة الشاعر الأولى، هذا الخيال الذى يدفعه فى نص آخر إلى استعارة قصص مفارقة للواقع كأن يكون له عم هاجر فى صباه إلى البرازيل ويكون هو وريثه الوحيد.
الشاعر دائما فى حالة تخيل لما افتقده على مدار عمره ولهذا فهو فى حاجة إلى معجزة لإحياء هذا الزمن الذى مضى دون أن يسعر به حتى تبدو الخمسون عاما كأنها "أحداث ليلة من ليالى الصيف" وهو ما يطرح فكرة "الزمن النفسى" فى مقابل الزمن الواقعى. ولا يخلو الديوان بطبيعة الحال من استشراف صورة المستقبل حين يبدو الشاعر –فى نص "قبلنى أرجوك"– قارئا للفنجان الذى يرى من خلاله صورة مفزعة للمستقبل حيث "سيكون انفجار يعمى الأبصار/ وتتبخر مدن كاملة/ ستمنع الحكومات الاقتراب من المواقع / خوفا من البخار البشرى/ وما يحمله من كراهية وإرهاب/ تقلصت ملامحها وهى تمسك بيده: يا الله.. قبلنى يا حبيبى.. خبئنى أرجوك ".
ورغم أن فعل الحب وأفعال العنف تحدث فى زمنين مختلفين فإن القصيدة تجمع بينهما فيما يعرف بجماليات التجاور التى تقوم على المفارقات الصارخة. وفى قصيدة "عادة يومية" تتجمع هذه الأفعال المفارقة فى لحظة واحدة "كان يصرخ فى النوم: دادى .. دادى.. مام/ دبابة تطاردنى/ ثم ينهض مفزوعا/ ويعدو إلى الخزانة".
وفى قصيدة "صورة" يوظف الشاعر ثنائية "الجمال والقبح"، الجمال الخادع الذى يكشف عن أنيابه تحت ابتسامته الظاهرة، فالبطلة تبدو جميلة مغرية وابتسامتها ساحرة لكنها فى الحقيقة لم تكن ابتسامة "كانت أشبه بمن يهم بالتهام شىء ما/ أسنانها لم تكن طبيعية أبدا/ نابان طويلان فى فم كفوهة بندقية" ومن الوارد تماما توسيع دلالات هذا المعنى بحيث لا يكون قاصرا على "صورة" بطلة سينمائية، بل ينسحب على كل مظاهر العصر الحديث التى تبدو جميلة فى ظاهرها؛ لكنها تتكشف فى أعماقها عن أنياب تفترس آدمية الإنسان وتحوله لآلة فاقدة للروح.
وتتأكد لعنة المسخ هذه حين يوظف الشاعر رمزية الفأر فى دلالته على الإنسان "الذى يروح ويجىء بحذاء النافذة/ الذى يبدو مهموما وشاردا/ ويشبك يديه خلف ظهره/ هذا الفأر النحيف/ أصبح خطرا / إنه يعرف أكثر مما ينبغى".. فالإنحراف الدلالى الذى يبدأ من السطر الثانى يحيل إلى هذا الإنسان المهموم الشارد والذى أصبح مطاردا ومراقبا بسبب معرفته التى تجاوزت السقف المسموح به.