القاهرة 21 يوليو 2020 الساعة 11:03 ص
بقلم: د. عبدالله عبدالعاطي النجار
ميلان فيشت "Füst mil?n"، كاتب وشاعر مجري كبير، مؤسس الشعر الحر في بلاده، الحائز على جائزة باومجارتن الأدبية أعوام 1932 و1935 و1945، وجائزة كوشوت عام 1948، والذي تم ترشيحه لنيل جائزة نوبل في الآداب في عام 1965 بعد ظهور النسخة الفرنسية لروايته الأشهر "حكاية زوجتي". وتكريما لذكراه اختارته الأكاديمية الأدبية الرقمية في عام 2000 ليكون عضوا من أعضائها.
ولد ميلان فيشت في 17 يوليو عام 1888، في بودابست، باسم كونشتانتين. نشأ الطفل الصغير بين ظروف أسرية مضطربة. كان أبوه، مارتون فيشت، شخصية غير مسؤولة ومستهترة، يعيش بأسلوب غريب. مات في ريعان شبابه، ولم يكن عمر ابنه ميلان حينذلك قد تجاوز الثامنة. لذا ليس لكاتبنا أي ذكرى عن أبيه إلا مجرد حكايات لا تخلو من الشكوك. تأخذ الأم، يوزافين فايس، على عاتقها مسؤولية تربية ابنها، ويساعدها هو في ذلك لضيق المعيشة. ينهي الولد دراسته بالمرحلة المتوسطة في أكثر من مدرسة ويضطر في أثناء ذلك للقيام بأعمال عَرَضية لتأمين لقمة العيش في ظل الظروف الصعبة التي تحيط به، فأحيانا يعمل حمّالا وأحيانا أخرى مرافقا لسائق عجوز. ومن رحم هذه الظروف ولدت روايته الجميلة "شباب الولد النبيل كونشتانتين". ثم بدأ في دراسة القانون والاقتصاد، لكنه كان يؤجل امتحاناته باستمرار. ربما كان يلعب دورا في ذلك اختلافه الدائم مع أمه، بالإضافة إلى الظروف والأحوال المحيطة التي خلقت فيه مبكرا ميولا للحزن العميق. عندها كان نداء الموهبة. توالت أعماله بدءا من عام 1908 وحقق انتشارا ونجاحا غير مسبوق بالعديد والعديد من الأعمال الخالدة التي تعاد طباعتها ونشرها وترجمتها باستمرار. توفي بعد صراع مع المرض في عام 1967.
أما عن رواية "حكاية زوجتي" فقد ظهرت عام 1942 بعد عمل دؤوب ومتواصل استمر لقرابة السبعة أعوام. نجح ميلان فيشت في تحقيق التركيبة الفريدة للفن الجديد والحداثة الطلائعية في عصره، وهو يتبع الواقعية المصورة للروح الإنسانية في القرن التاسع عشر، وفي نفس الوقت يطور نهج القرن العشرين الجديد بشكل مميز. قدوته في المقام الأول تولستوي – لكن شكسبير هو المعلم الأهم في نظرياته الجمالية بالكامل.
بطل روايتنا الرئيسي هو الراوي نفسه، القبطان الهولندي جاكاب شتور. تبدأ الرواية بأمر خطير جدا: "أن تخونني زوجتي، أمر توقعته منذ وقت طويل... لكن أن تخونني مع هذا... إنني رجل يبلغ طولي قدما وبوصة، وأزن مائتي وعشرة باوندات، أي أنني عملاق حقا كما اعتادوا أن يقولوا، لو بصقت على هذا لمات."
يعيش شتور حياته كقبطان في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، إلى أن يتعرف على معلمة فرنسية رقيقة، تدعى ليزي، ويتزوج بها. تدور الرواية حول هذا الزواج وتذكُّر كل تفاصيله. يحكي شتور عن زوجته الفرنسية، ذات الجسم النحيل، التي عندما تمشي في الشارع، تكون كمن تريد أن تقول: حتى وإن كنت صغيرة الجسم، فإنني موجودة في هذا العالم. وبالفعل، كان لهذه السيدة وجود كبير في هذا العالم، حيث كانت تتنقل بين مثلث يتشكل من باريس ولندن وبرشلونة، لكن القبطان يدور حولها بلا توقف في طرق الملاحة بالبحر المتوسط، محيطا بخيانات المعلمة الصغيرة، وكانت تختلف ردود أفعاله بين الانفعال والغضب في بعض الأحيان وغض الطرف والعفو في أحيان أخرى، وفقا لثقافته الغربية.
تدور أحداث الرواية في وقت ما من ثلاثينيات القرن المنقضي، ويتطرق الراوي إلى الأزمة العالمية الكبيرة، لكنه لا يتحدث عن الحرب ولا عن الحركات اليسارية العصرية في تلك الفترة.
يدخل جاكاب شتور في سنوات شبابه، بالتحديد عندما كان يبلغ من العمر 13 ربيعا، في مغامرات مراهقين مع مربيته الفرنسية، وبالرغم من ذلك يدعي الرجل الذي يتمتع ببنية جسمانية ضخمة، أن النساء لا يثرن اهتمامه. عندما يصير قبطانا، ينشغل بعمله في المقام الأول، ثم بتناول الطعام والشراب، ولم يكن يتجاوز اعتقاده عن الروح أنها: "إضافة مؤلمة". أصبح قبطانا في سن مبكرة، يعتمد على نفسه. جمع ثروة متواضعة وبعض الأملاك الصغيرة.
وفي إحدى رحلاته البحرية، يدعو القبطان بعضا من أصدقائه البحارة إلى سفينته الراسية في ميناء نابولي بعدما يقوم بالتسوق وشراء أشياء كثيرة. يشرب الكثير من الخمر في إحدى الحانات، وفي النهاية يشعر أن معدته قد فسدت ويلقي بباقي الطعام والشراب في البحر بغضب. تبعده هذه المغامرة عن الأصدقاء والخلان، ويكره على إثرها الناس، يصاب بعسر الهضم، وفي النهاية يرشده محلل نفسي إلى النساء كعلاج لما يعاني منه. تُرى هل يكون هذا العلاج ناجحا؟
هنا يتعرف شتور على ليزي، المرأة الفرنسية الرقيقة جدا، لكنها منحطة جدا أيضا، تسميه العم الدب لضخامة جسمه، ويشعر معها بحالة جيدة. يفكر في نفسه: لماذا لا أتزوج بهذه المرأة؟ لِمَ أبحث كثيرا؟ وبالفعل سرعان ما يتزوجها؛ إذ أن مثل هذا الأمر يتم بسهولة عند القباطنة؛ إذ ليس للزواج قدسية كبيرة عندهم – على حد قول الراوي –، كما أنه يعتقد أنه تجاوز أمورا مقدسة كثيرة، تظهر من خلال أحداث الرواية.
كانت هذه المرأة تعيش في مينوركا في صحبة من جنسيات مختلفة، ذات مزاج طيب، ليس غريبا عنها العشق الحر – يأتي بها القبطان من هنالك وينتقلان للعيش سويا في باريس. لكن سرعان ما يتسلل وراءها واحد من صحبتها السابقة.
في تلك الفترة، في منعطف الأزمة الاقتصادية في الثلاثينيات، عاش البحارة أيضا أوقاتا صعبة وافتقر القباطنة. اضطر شتور إلى اللجوء إلى ثروته الصغيرة، بسبب كثرة إنفاق زوجته المسرفة. ولأن شتور كان يقود سفنا كبيرة ناقلة للبضائع والسلع، رحلاتها صعبة وطويلة، وكان يريد أن يكون قريبا من زوجته، فقد بحث في لندن عن صديقه البحار اليوناني القديم، كودور، الذي أصبح للتو يملك أسهما رئيسية في شركة تأمين، ويطلب منه أن يبحث له عن عمل على بواخر صغيرة ناقلة للركاب؛ حيث كانت السياحة البحرية في تلك الفترة بعد الحرب العالمية الأولى في طور الازدهار. يعده صديقه بتلبية رغبته، لكن شتور لا يعرف حقيقة كودور بعد، تُرى هل يكون له تأثير على علاقته بزوجته؟
يقود القبطان شتور سفينة ركاب ناقلة لبعض البضائع أيضا متوجهة إلى الإسكندرية، وتشتعل النيران في الحمولة. يتعامل القبطان بطريقة مثيرة، يستخدم مسدسه الدوّار، يحاول تهدئة الركاب المذعورين والنجاة بالسفينة إلى بر الأمان، كل ذلك وسط أحداث مثيرة جديرة بالقراءة.
في ذلك الوقت يحوم حول زوجته شاب من أصل نبيل، يُدعى بال دو جريفي، أو دادين كما تسميه رفقته، ويبقى بالقرب منهما دائما. وتقع ليزي في حبه بالفعل كما يقول القبطان نفسه. وهنا يبدأ قلقه الحقيقي. يرافقهما الشاب طوال الوقت. يتحمله القبطان لعدم إثارة أي مشكلة. يحضر دادين كتبا إلى ليزي، ويشعر القبطان أنه كالحيوان الذي يشد العربة، فهو يكسب النقود لزوجته، بينما يهتم الشاب النبيل بها روحيا.
يحرص القبطان على التعامل بشكل لطيف مع الموقف. ينصحه دادين بالذهاب إلى لندن لأن هناك فرصا جيدة لكسب مال أكثر. يخطر ببال شتور مجددا صديقه كودور الذي يعمل بالتأمين أيضا، ومن المحتمل أن يكون بحاجة إلى متخصصين في هذا المجال، ويقرر أن يكتب إليه رسالة. يريد بسفره إلى لندن أن ينأى بزوجته عن ذلك الشاب. يدور في خلده أن يبقى في لندن خمسة أعوام ويلملم شتات نفسه، لن يكون عجوزا جدا إذا ما بلغ عمره حينذلك سبعة وأربعين عاما، وسيصير عمر زوجته حينها خمسة وثلاثين عاما، وهذا كاف لأن تستقر نفسيا. وعندها يمكنهما العيش سويا في هدوء واطمئنان...
يتبع ذلك دوامة من الأحداث، يقع العشق في قمتها، يريد القبطان الطلاق، تريد الزوجة تسميم نفسها، ويتبين خلال كل تلك الأحداث أن كلا الطرفين لا يستطيع العيش على طريقته الخاصة مع الطرف الآخر، ولا بدونه أيضا. كل ذلك يرسمه الكاتب باحترافية شديدة ورؤية شائقة.
يدخل شتور في أثناء ذلك في مغامرة أخرى مع فتاة أيرلندية كان قد تقابل معها صدفة على متن السفينة المشتعلة وأعجبت به بشدة كقبطان وقائد. ومن جهة أخرى يبدو في نقطة ما أنه استرد عشق زوجته له من جديد. في الازدواجية الأبدية لعلاقة الرجل والمرأة كل واحد منهما يريد أن يرى الآخر بشكل مختلف، وكلاهما يحب بطريقة مختلفة، لذا لا يمكن أن يتشكل بينهما تضامن عميق حقا بسبب هذا الاختلاف. ويزيد القبطان شتور، الذي يسجل هذه الأحداث مؤخرا، كل هذا بإبراز الاختلاف النوعي بين الرجل الشمالي – الهولندي – والمرأة الجنوبية – الفرنسية –. شتور يعشق ليزي للغاية، لكنه لا يستطيع تحمل أفعالها ولا يطيق خيانتها. وفي النهاية، يقبل الدعوة إلى لندن ويسافران. وبكل سرور تتبعهما الفتاة الأيرلندية المحبة لشتور، ويختفي دادين مؤقتا.
تبدأ علاقة شتور وليزي في أخذ منعطف النهاية. يقع شتورفي حب الفتاة الايرلندية، ويقتربان أكثر وأكثر من بعضهما البعض، وفي أثناء ذلك تبدأ ليزي في طاعة زوجها. (ظاهريا أم بشكل حقيقي؟). يسيطر خدر الحبين ونشوته على الهولندي حتى يصير كالسكران. يشعر فجأة أن عليه أن يترك الفتاة الأيرلندية، ثم يتراجع ويرى أن عليه أن يتزوج بها، وربما أن يسمَّ زوجته قبل ذلك.
وفي خلال ذلك يلاحظ أن صديقه اليوناني يريد أن يتحكم فيه. عندما وصل القبطان إلى لندن قال له كودور إنه قد تأخر بالفعل وأن العمل الذي كان مخصصا له قد شغله غيره. ثم يدعوه إلى عشاء عمل ويُجلس إلى جانبه سيدتين حسناوين، وتبدأ كلتاهما في امتداح شتور والتودد إليه. يقع القبطان في حيرة ما بين الفتاة الأيرلندية والمرأتين اللتين رآهما على عشاء العمل وأعجبتا به، وعندما يخبر القبطان زوجته بأمرهما وأنه تلقى عرضا للزواج بهما تفاجئه ليزي بقولها: "كم هو مثير، بالأمس طلبوا يدي أنا أيضا".
هنا تدب الغيرة في قلب القبطان ويبدأ في مراقبة أمورها والتجسس عليها. يقلب خزاناتها ودواليبها ويفتش في رسائلها، ثم يتتبع بعض الآثار غير الأكيدة، فيجد ما يشير إلى وجود علاقة بين زوجته وشخص آخر، يعثر على صورة طفلة غير معروفة بالنسبة إليه. ربما ابنتها التي تخفي أمرها؟ يتتبع شؤون زوجته كلها؛ ويتقابل في تلك الأثناء مع صديقة كودور مرات ومرات. يوطد شتور علاقتهة بزوجته ويهمل الفتاة الأيرلندية من أجلها. ومع كل ذلك تجده غيورا على زوجته. يا له من أمر عجيب!
فجأة ينقلب كل شيء رأسا على عقب، وتأخذ الأحداث منعطفا جديدا. يعلم القبطان من كودور في لحظة متهورة منه سرا أخفاه عليه، أما الفتاة الأيرلندية فتتخذ قرارا مفاجئا. يرجع شتور إلى المنزل بندم قاصدا زوجته، لكنها تعود إلى المنزل في وقت متأخر من الليل من لهو ما (يبدو أن دادين أيضا في لندن)، ينفجر القبطان، متناسيا خياناته الشخصية، يدور القتل في رأسه، يهشِّم كل شيء حوله، الأثاث، الثريا، النافذة، تهرب زوجته بفزع، ثم ماذا يفعل القبطان حينذلك؟ يرقد بين بقايا الأشياء المتكسرة بخيبة أمل ويأس منتظرا بكل جوامع روحه أن ترجع زوجته إلى المنزل. هل سترجع ليزي إلى المنزل؟ أم أن هذه العلاقة قد صارت سحبا وسقط الحب منها إلى الأبد؟
يسافر القبطان فجأة إلى مدينة بروج البلجيكية. يتقابل مع الفتاة الأيرلندية مرة أخرى ثم يودعها، ويدور بينهما حوار مثير، وفي نهاية لقائهما، عندما يبقى وحيدا في الحديقة، يلمح زوجته فجأة.
يتصرف شتور وكأنه شخص مجهول، أجنبي، ينادي على زوجته، يعرض عليها شيئا غريبا. تقبل ليزي اللعبة، يبدأ في التودد إلى زوجته، وأخيرا يفتح أمامها كل ما في أعماق قلبه، فتتأثر الزوجة وتقبل اعترافه بعد حوار مثير، ونعتقد أنها النهاية السعيدة.
يحصل شتور على سفينة جديدة، بل وتتاح له إمكانية اصطحاب زوجته إلى جزيرة جاوة في أول رحلة له. يهرول إلى لندن بسعادة، يصل قبل الموعد المتوقع بيومين، المفترض أن زوجته في رفقة إحدى صديقاتها على شاطئ البحر. أراد شتور أن يسرع إليها، لكنه لا يجد قطارا مناسبا في ذلك اليوم. كما أنه يتلقى دعوة مفاجئة من الفتاة الأيرلندية إلى حفلة تنكرية ما لتقدم له شخصا ما، ويقرر القبطان شتور أن يذهب إلى الحفل، على أن يسافر إلى زوجته في الصباح. وفي الحفل التنكري، يجد القبطان على غير المتوقع زوجته ليزي مرتدية زيا جميلا وفاتنا.
مرة أخرى يتغير الحال وينقلب تماما، يبدو أن هذه هي آخر لكمة خطافية بالنسبة إلى شتور. كان يظن إلى ذلك الوقت أن زوجته خائنة، الآن صار متأكدا من ذلك. انتهى الأمر! في تلك الأثناء يقتل شتور سائق تاكسي. تُرى لماذا؟ يُسرع إلى القطار المتوجه إلى مدينة دوفر ويلحق به في آخر لحظة قافزا إلى آخر عربة من القطار، ويفتش فيه إلى أن يجد في إحدى الكبائن العاشقين: زوجته والسيد دادين معا. كيف سيكون رد فعله؟ ماذا سيفعل مع دادين؟ وماذا سيقول لزوجته؟ هل سيطلقها؟ في النهاية يعتقد أنه قد أنهى الأمر الآن مع زوجته.
يترك القبطان البحر؛ يرى أن البحّار لا يملك شيئا. وبمساعدة السيد كودور، يذهب إلى أمريكا الجنوبية لتكوين ثروة. يعكف على العمل صباح مساء، دون توقف. وبعد بضع سنوات يرجع إلى أوروبا بثروة كبيرة. يعلمه صديقه الحكيم، ساندرز، فلسفة الانعزال، ويعيش بلا عمل، هائما على وجهه، وحيدا. يبدأ في السفر والترحال مجددا، لنفسه وليس بسبب العمل. يعتقد أن لا شيء يربطه شعوريا ووجدانيا. وخلال إحدى سفرياته، عندما كان في أحد المقاهي، يشعر أن شخصا ما يراقبه من وراء الستارة. ربما هي ليزي؟ كان عليه أن يدرك أن المشاعر والأحاسيس التي تبدو باردة ظاهريا ما زالت نشطة. وبهدف النسيان، يسجل في الجامعة في باريس برأس خالطه الشيب ويدرس الكيمياء. تحوز إعجابه معلمته الشابة، وعندما يتعرف على شقيقتها الصغرى، تعجبه هي أيضا. يقع في حب الفتاتين معا. ويقع في حيرة مجددا، وعندما يعزم على الزواج بالصغرى، يرى ليزي في أحد الشوارع، أو ربما يُهيأ له ذلك؟
يهرول كالمجنون ويتصل بصديقة ليزي المقربة ليسألها عن عنوانها، فتخبره بأمر صادم زلزل أركانه وهز أعماقه: ماتت ليزي منذ سنوات. هنا يكتشف شتور أن هذه المرأة الخائنة كانت أهم شخص في حياته، وأن محاولته نسيانها طوال السنين الماضية كانت بلا جدوى؛ إذ لم يستطع نسيانها للحظة، بل كان يؤمن بأنه سيراها مرة أخرى، قائلا في الختام: " لكنني أؤمن – ولا يحاولنّ أحد إقناعي بغير هذا – وأضع كل ثقتي في أنها ستظهر مجددا في يوم ما، في جو مشرق، في شارع خال، في ركن ما، حتى وإن لم تعد بمظهر شبابي، فإنها ستخطو بخطواتها المعروفة اللطيفة، الصغيرة، الخفيفة، السريعة. وأن الشمس ستسطع عبر معطفها الأسود.أراهن بروحي على أن هذا سيحدث. وإلا فلِمَ العيش؟ إذ لا أنتظر إلا هذا، وسأظل أنتظره إلى آخر حياتي. أعِدُ بهذا. مَن أعِدُ؟ لا أعلم."
تعد هذه الرواية مثالا لسمو وانحطاط الإنسان في آن. يرى شتور العالم غامضا، عجيبا، جحيما. بالنسبة إليه، وهذا يميز وجهة نظر أعمال ميلان فيشت بوجه عام، يتضارب أسلوب الحياة الباحث عن السعادة والحق معا. فصاحب الخلق يختار الحق، أما صاحب الجمال فيختار السعادة، ويستحيل أن يجتمع الاثنان معا (من وجهة نظره)، وإلا انفصمت الشخصية. عرف شتور هذا الأمر على مدى حياته، وحاول مقاومته وتغييره، لكنه يفاجأ في النهاية بأنه فقد جنة الدنيا وعليه أن يستعيدها مرة أخرى، على الأقل في خياله.
وختاما أتمنى أن تظهر النسخة العربية من مرشحة نوبل هذه قريبا في المكتبات العربية، فهي تستحق عناء الترجمة والنشر عن جدارة.