القاهرة 14 يوليو 2020 الساعة 10:01 ص
كتب: بشري عبد المؤمن
دائماً ما أبحث في رفوف المكتبات عن الكتب القديمة. ومَن منا لا يعرف رائحة هذا الشذى المُعتَّق في المكتبات ومستودعات الكتب المُستعمَلة؟ وخلال إحدى جولاتي تلك وقعت على ديوان شعر بالعامية المصرية، بعنوان "أحب الناس" للشاعر مصطفى السبيلي. لم أكن أعرف هذا الرجل حينها فقرأت الصفحة الأولى لأتقصّى هوية هذا الشاعر الذي بدا لي أنه يمتلئ بالمحبّة فصدَّرها عنواناً لديوانه.
مُصمِّم الغلاف كان الفنان التشكيلي والشاعر مجدي نجيب. بعد الإهداء، وتحديداً في الصفحة الرابعة، قصيدة أولى ومفاجأة بعنوان "أمّ كلثوم" مسبوقة بهذه الجملة: "إلى الطهر والنقاء، إلى السيّدة أمّ كلثوم بمناسبة طبع هذا الديوان على نفقتها الخاصة".
كان الأمر مُدهِشاً لأن "كوكب الشرق" يُشاع عنها البخل حتى قيل إنها لم تهد أحداً شيئاً باستثناء خاتم للشاعر أحمد رامي بهدف مُصالحته، فظلّ الأخير مُحتفظاً بالخاتم حتى توفّى بعد أمّ كلثوم بستّ سنوات.
القصة جاءت على لسان الشاعر نفسه في إحدى الحلقات التلفزيونية أن أمّ كلثوم سمعته في برنامج "ع الناصية" الذي تقدّمه الإذاعة ولم تتوقّع أن مصطفى السبيلي هو نفسه الشاعر مصطفى السبيلي الذي يُقدّم برنامج "صورة شعرية". البرنامج الذي كتب له صلاح جاهين وعبد الرحيم منصور وسيّد حجاب وعبد الرحمن الأبنودي.
كان السبيلي يتحدث عن كفاحه منذ أن كان طالباً في الثانوية العامة، حيث باع الفلّ والياسمين في استراحة فؤاد "استراحة الهلال"، مُفصِحاً عن أمنيته الوحيدة وهي طباعة ديوان له بالعامية المصرية. سمعته أمّ كلثوم فطلبت من سكرتيرتها الخاصة الاتصال بالبرنامج لتعلن تكفّلها بطبع الديوان على نفقتها الخاصة. حتى أن الإعلامي مفيد فوزي كتب في مجلة (صباح الخير) أن "أمّ كلثوم بكت بعد أن استمعت إلى بيّاع الفلّ والياسمين".
قدَّم الديوان الشاعر عبد الفتاح مصطفى الذي غنّت له أمّ كلثوم العديد من الأغنيات منها: "لسّه فاكِر"، "أقول لك إيه عن الشوق يا حبيبي"، "ليلي ونهاري"، "طوف وشوف"، وكتب لمحمّد قنديل "سحب رمشه ورد الباب" وابتهال النقشبندي الشهير "مولاي". خطّ الشاعر حروفه على الغلاف الخلفي لديوان مُتحدِّثاً عن السبيلي قائلاً "هذا الشاعر.. مارد انطلق من القمقم، وينبوع مصري حينما يتفجّر، يذكّرنا بأصالة بيرم التونسي، وخفّة دم عبد الله النديم، ورصانة إبن الليل! هذا الفنان يتمتّع بفن التفكير المنطلق، والتعبير المُقتدِر، والجَرْس الحلو. هذا هو الشاعر القاهري الصادِق البارع، المصري بإيمانه بالله وقدره، المصري بحبّه وهو يتجاذبه حب الجمال وخوف النَدَم من العواقب، ووخزة الضمير الطيّب.. المصري بأنسه وظرفه، وأخوّته وحبّه للناس وقناعته رغم أنه شاب مُكافِح من قاع المجتمع"، وأضاف مصطفى أن "السبيلي.. يُجيد حيث ينفعل بصدقٍ وحيث يُعايش أحاسيسه فتؤاتيه القوافي سهلة، سلسة، ويؤاتيه المعنى من شواهقه وشوارده. هذا هو الجديد، وهذه هي القيمة الحقيقية التي حرصنا على تعقّبها وفرحت للعثور عليها. تحية لمولِد هذا الفنان الأصيل، ذي السِمات المصرية الجميلة".
أبصر ديوان "أحب الناس" النور في العام 1973، ويحتوي على 48 قصيدة منها قصيدة وحيدة قصيرة مكتوبة باللغة الفُصحى وعنوانها "رغبة". العديد من القصائد نُشِرَت في مجلة الإذاعة والتلفزيون بتواريخ مختلفة، وكذلك مقدّمة قصيدة "آلام الوضع" في جريدة الأهرام.
الكثير من قصائد الديوان أهداها الشاعر إلى أكثر من شخص، فقدم قصيدته الأولى لكوكب الشرق ثم قصيدتي "أنا مش صغير!" للشاعرة هدى سليمان، و "شهر زاد" إلى المذيعة حكمت الشربيني. وفي نهاية الديوان قصيدتان كُتبتا في مصطفى السبيلي نفسه، الأولى للشاعر شعبان زين بعنوان "هلّ الأمل" والثانية للشاعر الغنائي سيّد عبد الظاهر، بعنوان "إلى بيّاع الفلّ".
اهتمّ السبيلي بردود أفعال القرّاء وفكرة تواصُل الشاعر مع الناس، لعلّ الفوارِق ما بين "الطليعة" و "الجماهير" تذوب، فكتب في نهاية الديوان "أعزائي القرّاء: صاحب هذا الديوان مصطفى السبيلي يُرحِّب بكل ما تضيق به صدوركم بالنسبة لأشعاره.. وعنوانه للمراسلة: بولاق الدكرور، 5 شارع عبد الفتاح طلبة". لكن مَن هو مصطفى السبيلي؟
هو طفل عاش في أحضان الزهور التي كان يرعاها والده "الجنايني". قضى طفولته بين سبعة من الأخوة في صعيد مصر. كتب الشعر ولم يكن قد تجاوز بعد 10 سنوات، حيث صاغ أولى مقطوعاته الشعرية في الصف الخامس الابتدائي، في مدرسة بسيطة في محافظة المنيا. مقطوعة كتبها بطلبٍ من أحد مُدرِّسي اللغة العربية خصيصاً لاستقبال المحافِظ في المدرسة، فأهداه الأخير قلماً كان أول الجوائز التي تلقّاها عن شعره. في نهاية عام 1961 انتقل السبيلي مع أسرته إلى القاهرة، وفي الصف الثاني الإعدادي تعرَّف على الشاعر أحمد رامي خلال زياراته لشارع "الشريفين" في باب اللوق مقرّ الإذاعة في تلك الأيام، وأبدى رامي إعجابه بذلك الفتى الذي يكتب في هذه السن، كلمات ترقى إلى مستوى الأغنية.
ثم غاب الشاب عن الذهاب للإذاعة لمدّة تقرب من 3 سنوات إلى أن قدَّمه صالح جودت عام 1965 في إحدى حلقات برنامجه، ثم قدَّمه عبد الله أحمد عبد الله الشهير بـ"ميكي ماوس" باعتباره "شاباً موهوباً وله مستقبل جيِّد".
في العام 1969 التقى السبيلي في أحد برامج الإذاعة بالشاعر عبد الوهاب محمّد الذي نصحه بالتفاؤل الشعري مؤكداً على موهبته، فكتب السبيلي عام 1970 للإذاعة برنامج "صورة شعرية" قدَّمته حكمت الشربيني فذاع صيته واستمرّ في كتابته في ما يقرُب من 3 سنوات، بعدها قدَّم أول أغنية صدرت له من الإذاعة ولحّنها "خوفو الموسيقى الشرقية" والزوج الثاني للسيّدة "أمّ كلثوم" الموسيقار "محمود الشريف".
نشر السبيلي في بعض المجلات أبرزها مجلة الإذاعة والتلفزيون، فالتقى بشخصيات ما زلنا نعيش على تُراثها ومنهم بليغ حمدي ومحمود الشريف الذي لحّن له أغنيتين قبل 6 أشهر من حرب أكتوبر، فكانت أغنية "يا إبن الوطن" تحرِّض على ردّ الاعتبار فيقول في بدايتها: "يا ابن الوطن آن الأوان.. قوم انتبه من غفلتك.. ده الموت ولا ذلّ الهوان.. والنيل حياته في نهضتك .. يا ابن الوطن".
أمَّا القصيدة التي أسهمت بشكلٍ أكبر في شهرته، فتلك التي ألقاها في برنامج "ع الناصية" الذي كان يُقدِّمه الإعلامي عمر بطيشه، قصيدة منشورة في الديوان تحمل عنوان "صحن فول"، وللأسف طرده والده بسببها من البيت لفترةٍ قصيرة. وظلّ إسم مصطفى السبيلي يتردَّد سنوات عدّة حتى انطفأ نجمه وتغيَّب عن المشهد الغنائي إلى أوائل التسعينيات، حينما أرسل له جورج وسوف دعوة إلى لبنان وتعرَّف هناك على نجوى كرم، فغنّى له وسوف "روح الروح" من ألحان شاكر الموجي: "جرحونا برمش عين.. كلامهم مسِّنا/ سألونا نبقى مين.. قدِّمنا نفسنا/ قلنا إحنا اللي القمر ما عِرفش يذلّنا/ الناس طلعوا القمر وقمرنا نزلِّنا".
وقدَّم أيضاً العديد من الأغنيات التي نستمع إليها ولا نلتفت إلى كاتبها إلى اليوم، فقد غنّى له: كارِم محمود "في عزّ الليل تنام الناس وأنا صاحي.. في عزّ الليل"، وشفيق جلال "عشان الناس"، وأنغام " يا أعزّ وأغلى وأطيب قلب"، وحورية حسن "شبكونا برمش عينهم"، ووليد توفيق "أيام الأسبوع" فضلاً عن فنانين آخرين منهم محمّد الحلو، مدحت صالح ، فضل شاكر، راغب علامة، رامي عياش، ميشيل خليفة". ورغم أن مصطفى السبيلي ودَّعنا عام 2014 لكن كلماته ظلّت تتردَّد حتى اليوم.