كتب: د. محمد سمير عبد السلام
تواصل الشاعرة المصرية المبدعة رانية خلاف مشروعها التجريبي في كتابة قصيدة النثر؛ وذلك من خلال ديوانها الثالث جنازة مفتعلة، وقد صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة 2020؛ وتحتفي الذات المتكلمة – في الديوان – بالتأملات الأنثوية، وأحلام اليقظة، كما ترتكز على بلاغة الأشياء الصغيرة في الواقع اليومي؛ مثل الفقاعات الملونة، والأصوات المتداخلة، ولعب الصبية، وتفاصيل المقهي، وتعزز المتكلمة من علامات الهامشي في المشهد الواقعي، وتداخلاته المحتملة مع تاريخ الفن، والصور الحلمية السريالية أحيانا، كما تتداخل في بنية العلامة إيحاءات، وانطباعات تفسيرية من الفنون الأخرى؛ مثل الموسيقى، والفن التشكيلي، أو يحيلنا النص إلى بنيته السيميائية الخاصة عبر عمليات التداعي الحر، والسرد الشعري، والاستبدالات الممكنة، أو المكملات الدلالية طبقا لتصور دريدا حول علم الكتابة؛ وتتواتر – في الديوان أيضا – المراوحات بين أصالة البهجة، والمآسي المحتملة؛ لتفكك بنية المدلول المركزي في النص؛ فقد يأتي الموت معلقا في امتداد الطيف، أو الصوت التمثيلي لمكاوي سعيد مثلا في فراغ المقهى الإبداعي، أو تجمع المتكلمة بين وهج التأملات الأنثوية في أحلام اليقظة التي تذكرنا بطاقة الأنيما عند باشلار، والموت المؤجل؛ ومن ثم يوحي نص رانية خلاف بنوع من التعددية ما بعد الحداثية في احتمالية تشكيل العلامة، وتداخلاتها البنائية مع الفنون الأخرى من جهة، والإعلاء من الهامشي، وتعدديته النسبية، وسخريته من حضوره الهامشي نفسه في المشهد اليومي من جهة أخرى.
وتؤكد عتبة العنوان/ جنازة مفتعلة دلالات اللعب، والبهجة، والمحاكاة التمثيلية الساخرة للمآسي المعلقة في سياق يجمع بين الحلمي، واليومي، وتداعيات الصور في الوعي في السياق النصي للقصيدة التي تحمل عنوان الديوان؛ إذ تحيلنا المتكلمة إلى ذكرى التداخل بين البهجة، والمأساة، وفعل اللعب التمثيلي في تأملاتها الأنثوية، وانطباعاتها التي تبدو كتأويل نسبي لحالات الوجود، وثرائها الدلالي، وتجاوزها للاختزال، أو البعد التفسيري الواحد.
وقد تتشكل صورة الذات الأنثوية المتأملة، أو الحالمة أيضا - في المشهد الشعري – في مساحة مجازية بينية تومئ إلى كل من الموت المؤجل، وأحلام اليقظة التي ترتكز على صورة المياه، وعلاقتها بالوعي، واللاوعي؛ وكأنها تستعيد بهجة السكون، والتأمل من داخل الأرق، والصراع الداخلي طبقا لخطاب فرويد؛ وتذكرنا بصورة أوفيليا الملهمة طبقا لباشلار في كتابه الماء، والأحلام؛ تقول رانية خلاف في قصيدة غرق:
"أراحت خدها الأيمن/ على حافة الأرق ... / اندس جسدها الدائري/ المثقل بالأحلام/ بين صفحات الماء المتداخلة/ راحت في موت عميق".
يحيلنا النص –إذا– إلى تصاعد التأملات، وأحلام اليقظة التي تنبع من مياه توحي بالهدوء، والسلام، والدائرية، بينما تومئ إلى موت شكلي مؤجل، يتشكل في حالة تقع بين الصراع غير الواعي، وبهجة الحلم الأنثوي؛ وهو ما يؤكد التناقض الإبداعي، واستدعاء صورة أوفيليا طبقا لشكسبير، ومن تأثر به من الشعراء، وتصورات باشلار عن حلم المياه في الوعي.
وتنتقل المتكلمة –في كتابة رانية خلاف– من حلم اليقظة إلى الصور السريالية الصاخبة التي لا تخلو من البهجة، والسخرية أيضا في سياق سردها الشعري لصراع الأفكار في وعي، ولاوعي الذات المتكلمة، وقد اتخذت هذه الأفكار تجسدات تشبه الصراعات اليومية، ولكن في تمثيلات تصويرية أنثوية مقطعة، وحلمية، تشبه الصور غير المترابطة في المستوى العميق من اللاوعي؛ تقول في نص المعركة:
"تتعارك أجسادهن المترهلة/ بشراسة ذئاب برية/ ثم يتساقطن/ واحدة تلي الأخرى/ في آخر الليل".
تبزغ صور النسوة اللاتي يستبدلن الأفكار –بصورة إيمائية غير متصلة في نسقها السردي– لتشير إلى لامعقولية المعركة الداخلية، وحضورها الطيفي الممزوج بالسخرية، والبهجة، والفراغ، أو ظلمة النوم في آن؛ فالصخب العنيف هنا يأتي مصحوبا – في الخطاب الشعري – بموسيقى الصمت، وكثافة الحقيقي الجمالية في تلك المحاكاة التصويرية المتكررة في العالم الداخلي، والاستبدالات الحلمية طبقا للتصور الفرويدي.
وقد تتشكل البنية العلاماتية للنص –في كتابة رانية خلاف– بصورة تتضمن الإحالة إلى الفنون الأخرى، أو إلى الحضور المجازي لطيف الآخر، أو إلى بلاغة الهامشي، وحضوره التفسيري ما بعد الحداثي في المشهد اليومي.
تحول الذات الخبرات الحسية المتعلقة بالصوت إلى قراءة جمالية موسيقية محتملة في الوعي؛ وكأن التفاصيل اليومية في الشارع قابلة للتحول المجازي العلاماتي المستدعى من فاعلية تاريخ الفن في الوعي، والحياة الأخرى لعلاماته، وأصواته خارج بنى العمل الفني نفسه؛ وهو ما يذكرنا بتأكيد فاتيمو للتداخل بين الفن، والواقع في الممارسات ما بعد الحداثية؛ تقول رانية خلاف في قصيدة كلاب ضالة:
"يفزعني/ نباحها الأوركسترالي الممطوط/ عيونها الكستنائية الواسعة / نظراتها الوديعة/ الحالمة دوما/ بنظرات متعاطفة/ لا يسكنها فزع".
تكشف المتكلمة عن بنيتي الاتصال، والانفصال بين الذات، والهامشي / الحيوان؛ وذلك عبر الوصف السيميائي للخبرات الحسية، والانطباعات الداخلية المتولدة عن الصورة، وإيماءات الصوت؛ ومن ثم يتقاطع النباح مع تعددية الأصوات الموسيقية في الأوركسترا في وعي، ولاوعي المتكلمة؛ فبنية الصوت الطبيعي/ الهامشي في سياق الحياة اليومي، تتقاطع مع فن الموسيقى، وآثاره المتراكمة في الذاكرة، كما توحي النظرة الحالمة للحيوان بتناقضات الصورة بين بنيتي التناغم، والغربة أو الانفصال الحاد المحتمل عن الحيوان في المشهد؛ لا يمكن –إذا– فصل الانطباعات الحسية الجمالية الداخلية للمتكلمة عن أثر التداخل العلاماتي بين الفنون، وسياق الحياة اليومية.
وتذكرنا قصيدة المقهى لرانية خلاف بلوحة مقهى المساء التي رسمها إدوارد مونش؛ والتي تلتحم فيها امرأتان ببنية الفضاء/ المقهى، بينما يعمق اللون الأسود من الغموض، والأصالة الجمالية للفضاء؛ وتكسب رانية خلاف المقهى مدلولا مكملا لوجود الذات في العالم، وتحقق كينونتها من خلال بنية الصورة؛ أي صورة الذات الضائعة المهمشة حين تكتسب وهج الحضور في مشهد الجلوس على المقهى؛ والذي يعد – في وعي الذات المدركة – مشهدا تصويريا وجوديا في آن، تلتحم فيه الذات بالفضاء الجمالي؛ تقول:
"يظل الغريب غريبا عن شوارع المدينة/ يسير ولا يلمحه
أحد/ يظل غريبا/ حتى يدلف إلى مقهى مزدحم/ ديليس مثلا/ فيأتلف/ ويبدأ الناس في الالتفات إليه".
متى تشكلت لحظة ظهور الكينونة في المشهد؟
لقد التقطت الذات المتكلمة لحظة تحقق كينونة الغريب حين تشكل في مشهد فني تصويري، يتقاطع مع لوحات الفن التشكيلي في الذاكرة؛ وكأن اللحظة الوجودية قد تجددت في بنية الحضور الذي يشبه عملا فنيا تشكيليا في الوعي.
وقد يبدو فضاء المقهى التشكيلي منتجا لأطياف الآخر/ مكاوي سعيد، وصوته الآخر المتخيل، وحواره الصامت مع المتكلمة في مشهد يشبه شعرية الفوتوغرافيا في بنية الفضاء العميقة، وتقاطع العوالم الممكنة بداخلها بين المتخيل، والحقيقي؛ تقول في قصيدة حداد:
"الآن –ربما– أشعر ببعض المرح/ بينما الحروف تتجمع عند الهوامش/ البيضاء/ تتسابق/ للعزاء/ لهبوط واع/ في فنجان قهوتك اليومية".
تلتقط الشاعرة شعرية المشهد فيما وراء فعل التسجيل؛ فهي تراوح بين فراغ المقهى، ودلالة الحداد، وتجدد الصوت التمثيلي الطيفي لمكاوي سعيد، وحواريته الصامتة في المشهد؛ فالفضاء/ المقهى يصير منتجا للأطياف، والعلامات التي تجدد صوت مكاوي سعيد؛ ومن ثم يذكرنا بحديث دريدا عن انتشار صور بارت عقب وفاته؛ وإن ارتكز خطاب رانية خلاف الشعري على حدث التجدد الكامن في الآثار الجمالية للعلامات اليومية المتكررة التي تنطوي على استدعاء أخيلة الآخر، رغم الحداد.
وتحتفي الذات – في خطاب رانية خلاف- ببلاغة الهامشي، وتجلياته الطيفية السريالية من داخل الحدث اليومي المتكرر في نص بائع الفقاعات الملونة؛ ومن ثم فهي تجدد الحساسية الشعرية التسعينية في مصر؛ والتي ارتكزت على التداخل بين الحلمي واليومي، والفني عند إيمان مرسال، وعلاء خالد، وزهرة يسري، كما تعزز من النسبية التعددية للهوامش كما هي في تصور ليوتار حول الوضع ما بعد الحداثي؛ فالفقاعات –في النص– تقع في علاقة تجاور مع العلامات والقوى الأخرى في المشهد، وتبدو حاملة لبهجة حلمية فوق واقعية، كما تعيد قراءة الوجود في حضوره المؤقت الذي يذكرنا بتصورات هيدجر مثلا؛ ومن ثم تكتسب شعرية التفاصيل عمقا مكملا مضافا في الخطاب؛ تقول:
"لا أحد يلتفت/ حتى عندما تنفجر الفقاعة في الهواء/ وتسقط/ وتنكسر/ المسكينة/ ولا أحد يلتفت أيضا/ في الحقيقة/ لم يعد أحد يرغب في الالتفات..".
يرتكز الخطاب الشعري –هنا- على على هامشية الفقاعات البهيجة الملونة وحياتها الحلمية المجازية في المشهد، ويعيد تشكيل الواقع على أساس مشابهته للفقاعة النسبية في حالات من التجاور بين العلامات، كما تبدو الفقاعة كعلامة لها حياة طيفية افتراضية مؤولة للعلامات والأصوات الأخرى بصورة استعارية تمثيلية، تكشف عن البهجة، ودورات الوجود المؤقت في آن.
ونعاين التداعيات النصية الحرة، واستبدالات العلامة، والسخرية ما بعد الحداثية من مركزية المدلول في نص جنازة مفتعلة؛ فالعلامات تحيلنا إلى علامات أخرى مكملة؛ فذكرى وفاة الأم تقترن بالصداع، وبهجة مواجهة البحر، ولعب الأطفال، والسخرية من مركزية الموت المؤجل؛ وتذكرنا هذه التداعيات النصية بتصور دريدا حول التشكيل السيميائي التحويلي للعلامة في سياق قراءته لروسو في كتاب في علم الكتابة؛ إذ يرى أن عمل روسو النظري قد تضمن تداعيات الكتابة، وإنتاجيتها للمكملات، والتي تتجلى في دلالات نيابية، وإحالات تفاضلية؛ بحيث لا تتجلى بنية الواقع إلا من خلال الأثر، أو استدعاء المكمل. (راجع، دريدا، في علم الكتابة، ترجمة د. أنور مغيث، ود. منى طلبة، المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، ط2، 2008، ص 307).
هكذا تحيلنا الذات المتكلمة في خطاب رانية خلاف إلى مجموعة من البنى التحويلية، والمكملات التي تستبدل ذكرى الموت، والصداع بالبهجة، واللعب، والسخرية التي تتضمن الدلالة المأساوية مرة أخرى بصورة معلقة؛ تقول في نص جنازة مفتعلة:
"أقف في الصف/ انتظارا لدوري في القفز/ في المسبح/ المختلط بضحكات عفوية/ وهناك من مكان شبه مرتفع/ كنت أراقب بعض الصبية/ يهمهمون/ ويجربون/ كيف يؤدي الطفل فينا/ دوره المفتعل/ في جنازة حقيقية".
وسنلاحظ هذا الاستبدال الواضح بين الجنازة المفتعلة في بنية العنوان، والجنازة الحقيقية الممزوجة ببهجة خافتة ضمن نسق النص السيميائي المتداخل، والذي يؤكد وجود المكملات، والتحولات الدلالية، والإشارية في نص رانية خلاف، ويعيد تشكيل التمازج الموسيقي الداخلي، أو التنازع الدلالي بين قوتي البهجة، والحدس المأساوي في الخطاب الشعري.