القاهرة 07 يوليو 2020 الساعة 10:29 ص
إعداد: مختار سعد شحاته
الجزء الخامس
طبيعة الصراع داخل جماعات الهامش:
يتبادر إلى الذهن أن الندية ما بين الطليعي والمحافظ هي أمر طبيعي يفرضه الموقف الأدبي والثقافي في كل جماعة، وتتمرس كل الكيانات التي تقف تحت لواء كل فريق للتأكيد على هذه الندية، وهو معلن على الدوام بكل أريحية من الطرفين، ولكن لا يمكن أن نغفل أن "الحدود بين الحياة الأدبية والحيوات الأخرى مثمرة فيخلق مساحات هامشية يمكن أن يجري فيها العمل على كتابة الحياة. ومع ذلك فإن تلك الحدود ليست تامة، وغالبًا ما تكون هشة للغاية، وأحيانًا يمكن لتداخل مجالات الحياة المختلفة أن تكون له عواقب مزعجة.
ربما كانت نظرية السلطة لفوكو، مدخلا جيدًا لتحليل هذا الصراع –الأبدي- لكن العجيب هو امتداد ظلال النظرية إلى داخل الهامش الطليعي ذاته، فيمكن من خلالها تحليل تلك العلاقات التي تكونت بين كيانات الهامش، إذ صار بعض الهامش متنًا وقبع الآخر في هامش جديد أنتج ما أسميناه الجيوب الثقافية الطليعية، وهي هشة لا تحتمل تلك الصراعات في غالبها، فتتقوقع للأبد أو تختفي تحت وطأة الإحباطات التي لا يحتملها مؤسسو تلك الجيوب، وربما تتداخل وتتقاطع عوامل من خارج المشهد، فتدفع نحو اختفائها السريع.
وباعتبار نظرية فوكو يمكن أن نفهم بعدًا آخر في طبيعة الضدية بين الهامش والمركز، إذ تعتبر بعض جماعات الهامش في أهمية هذا التضاد وفي اعتقاد تحققها من خلال تلك الندية والضدية مع المركز، وهو ما يجعل الهامش الطليعي يتبنى في رسومات الجرافيتي على كورنيش الإسكندرية بيت الشعر لأمل دنقل "لا تحلموا بعالم سعيد، فخلف كل قيصر يموت.. قيصر جديد"(1) باعتبارها منهجًا للتمرد والضدية المستمرة مع سلطة المركز وجماعاته المحافظة التي ترتع في كنفه، حتى ولو كانت كما أسماها ريشار جاكمون "جيش الآداب".
وبالعودة إلى صراع الهامش والمركز، ومن حيث يتخذ الطرفان من قضية صراعه قضية وجود ذاتي وتحقق، سنفهم أن هذا الصراع يتم الدفع به في بعض الأحيان إلى جوانب خارج الإبداع وقضاياه، فتبرز قضايا هجومية يتعلل بها المركز، ويحولها إلى قضايا أخلاقية مجتمعية بغرض إثبات إفساد المشهد على الجانب الطليعي، والذي يصل في بعض أوقاته إلى اتهامات العمالة والتخريب، وهو ما لاقى صدًا كبيرًا في الفترة الناصرية، ويتم استثماره على الدوام حتى الآن وإبان الوضع الراهن في مصر بعد ثورة يناير 2011، وهو ما جعل البعض المحافظ يعلن بأن قصيدة النثر مؤامرة على القرآن الكريم واللغة العربية، وبالتالي فهي مؤامرة على الهوية. والحقيقة أن القضية من هذا المنظور قديمة، فما أورده ريشار جاكمون على لسان أحمد أمين، حين ينقل عنه أن الشعر العربي دخل في أزمته حين بدأ الشكل التقليدي في التهديد لأقدم شكل تعبيري لغوي عرفته العرب والمتمثل في شكل القصيدة العربية (1)، ربما يؤكد لنا أن الصراع طويل ومستمر بدوام الإبداع.
ومن الأمور الدافعة لفهم هذا الصراع هو فهم وإدراك نوعية التعليم الذي يتلقاه هؤلاء وهؤلاء، ففي أوقات يختفي فيها أثر نوعية التعليم لأفراد الهامش والمركز، إلا أننا الآن وفيما يتعلق بالهامش الطليعي سنجد نوعية التعليم، ونوع التعلم الذي يمارسه الهامش يختلف اختلافًا كبيرًا عن نوعيتهما –التعليم والتعلم- في دوائر المركز، وحتى إن كانت تعتمد في رئاسة مؤسسات المركز درجة علمية ما. إلا أن نوعية التعلم الذاتي الذي يمارسه المنتمون إلى الهامش صار محددًا لهم، وبعيدًا عن نوعية التعليم التي كانت تفصل بوضوح بين الهامش والمركز في فترات سابقة.
وإلى نوعية التعلم تعزى بعض الجيوب التي تتكون داخل الهامش وتساعد على فهم أسباب تكونها بعيدًا عن نوعية التعليم والطبقة الاجتماعية لأفراد هذا الجيب، وهي في ذلك متشددة بدرجة كبيرة لتضمن أصالة المنتمين إليها. فمثلا يمكن لك أن ترصد جماعات فنية وأدبية من طبقات اجتماعية مختلفة ونوعية تعليم متفاوتة، إلا أنها تقاطعت في نوع تعلم ذاتي واحد وانصهرت في أفكاره، فانغلقت على أيدلوجيتها التي كونتها ورفضت الاندماج مع الغير، وهو موجود بكثافة داخل الهامش الطليعي، وخير مثال لذلك الفرق الموسيقية أو الجماعات الكتابية التي تتكون بخصوصية ما.
هنا لا يمكن أن ننسى تلك المجموعة الهامشية التي قررت أن تظل على أفكارها الطليعية دون أن ترى مانعًا في استخدام مؤسسات الدولة، كما جاء في مجموعة الطليعيين الذين يتعاونون مع مختبر السرديات ممن يشتهرون بطليعيتهم، وهو ما سبب لهم أزمة مع الطليعيين الذين يرون مجرد التعاون مع المؤسسة واستغلال مؤسساتها للترويج لأفكارهم خيانة للطليعي كله، ولم يمنع ذلك بعض الطليعيين من ان يرى أن من التخلف الطليعي أن يقبع الطليعيون دون المطالبة بحقهم في استغلال مسرح الدولة ومؤسساتها المتاحة للجميع، وأن مقاطعة المؤسسة تضر بالطليعي أكثر، بل وتزيد في تهميشه الذي سينتهي بحالات كثيرة إلى الفشل والاختفاء.
ختامًا؛
إن المتأمل للهامش الأدبي والثقافي في الإسكندرية سيجد كيف تتحول البيئة إلى بيئة قاسمة تقسم المبدعين وتحتد في ذلك، وهو ما يؤدي إلى حدوث عملية قصم واضحة لكثيرين ممن مارسوا الإبداع وسقطوا ضحايا هذه الصراعات بين الهامش والمركز أو بين الجيوب الثقافية داخل الهامش نفسه.
ويأمل الباحث أن تكون تلك الدراسة الموجزة نواه لبحث أكثر شمولية وأكثر اتساعًا، أو أن تُلهم آخرين من المهتمين بالحدث الثقافي في الإسكندرية ومصر بعمومها، على الرغم من إيمان الباحث بأن الحالة السكندرية لها طبيعتها الخاصة كالمدينة ذاتها حتى في صراعات الهامش والمركز في البيئة الثقافية.
المراجع:
1- الهامش الاجتماعي في الأدب قراءة سوسيوثقافية، د. هويدا صالح دار رؤية للنشر والتوزيع، ط 1، القاهرة، 2014.
2- بين كتبة وكُتّاب، ريشار جاكمون، بترجمة بشير السباعي، دار المستقبل العربي، القاهرة.
3- دراسات في الواقعية، جورج لوكاتش، ترجمة نايف بلوز، المؤسسة الجامعية للنشر و التوزيع ـ بيروت.
4- عتبات جيرار جينيت من النص إلى المناص، عبد الحق بلعاد، بتقديم سعيد يقطين، ، الدار العربية للعلوم، 2008، ط1.
5 المثقف والسلطة، إدوارد سعيد، ترجمة د. محمد عناني، دار رؤية للنشر، القاهرة.
6- إرادة المعرفة، ميشيل فوكو، ترجمة سليمان حرفوش، دار التنوير، القاهرة.-
7- كتابة الحياة، دراسة إثنوغرافية، صامولي شيلكه، ومختار شحاته، معهد دراسات الشرق المعاصر "سا. تي. مو"، برلين، 2016 -
8- تاريخ المسحوقين، يوسف أحمد الحسن، مجلة الواحة الخليجية، العدد الستون، 2010.