القاهرة 07 يوليو 2020 الساعة 09:57 ص
بقلم: أسامة الزغبي
القبطية فى العصر الإسلامي:
استقر الأمر للمسلمين فى مصر عام 642 ميلادية على يد القائد عمرو بن العاص الذى دائما ما يوصف بأنه داهية سياسية وأحد أنياب العرب، وبالتالى لم يغير شئيا يُذكر فى نسق الحياة المعتادة لدى المصريين، بل سوف يستعين بالكثير من الأقباط فى أمور كثيرة خاصة ما يتصل بشئون الخراج, وهى السياسة التى يُفهم منها ضمنا أن القبطية ظلت هى اللغة السائدة حتى فى الدواوين الحكومية.
تذكر تقريبا جميع المصادر التاريخية أن الجيش الذي قدم به عمرو بن العاص كان ما بين 3500 إلى 4000 جندى ثم وافاه مدد من قبل الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه لاحقا بما يوازى 12000 جندي. وبالتالي هي ليست بالأعداد التى يمكن أن تغير من ثقافة ولغة شعب كالشعب المصري بسهولة.
كانت السيطرة على مصر من قبل المسلمين ضرورة لتأمين بلاد الشام علاوة على تخوف المسلمين من هجمات البيزنطيين من خلال القلزم (السويس) حاليا، ثم إن خيرات مصر لم تكن بعيدة عن أذهان العرب، فمن الثابت تاريخيا أن عمرو بن العاص زار مصر تاجرا قبل الإسلام، وبالتالى كان يعلم ما تتمتع به من خيرات وثروة.
قانون الارتباع:
تتساءل الدكتورة سيدة إسماعيل الكاشف فى كتابها (مصر فى عصر الولاة من الفتح العربى حتى الدولة الطولونية) ص 145, عن السبب الذي جعل شعب عريق في المدنية كالشعب المصري يتنازل عن لغته ويتخذ لغة شعب غازى لا يوازيه في الحضارة، فى حين أن ذلك لم يحدث مع غزاتها الكُثُر من فرس ويونان ورومان ولا حتى أثناء الاحتلال العثماني الذي دام قرونا طويلة ومحاولته فرض اللغة التركية على الأقل رسميا. ومصر فى هذا الصدد تمثل ظاهرة تلفت الأنظار بالنسبة لبلاد إسلامية مثل إيران التى لم تترك لغتها الأم بعد اعتناق أهلها للإسلام، خاصة ومصر تتميز بشدة التمسك بكل ما هو وطنى ضد كل ما هو دخيل ووافد عليها. ربما نجد الإجابة عن هذا التساؤل المهم فى قانون الارتباع. ولكن ماذا يعنى هذا القانون؟
أسس عمرو بن العاص مدينة الفسطاط بالقرب من حصن بابليون الذى استعصى عليه اقتحامه طيلة سبعة أشهر، واتخذ منها عاصمة ومستقرا لجنوده وبالتالى لم يكن هناك اختلاط كبير بالأقباط إلا أنه قد استن قانونا سُمى بالارتباع وهو تعبير مشتق من الربيع حين تكسو الخضرة أرض مصر وتزهر بساتينها وتُجمع محاصيلها وفى تلك الفترة كان عمرو بن العاص يأمر الجنود بالذهاب إلى قرى وأرياف مصر بخيولهم كى ترعى فى حقول البرسيم حتى تسمن، ويمارسون رياضة الصيد وهى هوايتهم المفضلة وكان للعربى حق اختيار أى بيت للإقامة فيه طيلة ثلاث ليال يمكن أن تطول ويبدو أنها كانت بالفعل تطول، فاضطرت الأسر القبطية إلى تعلم لغة الضيف الثقيل للتفاهم معه، وبالتالى بدأت العربية فى الانتشار بين الأقباط.
لا يمكن أن نتجاهل أيضا دور الهجرات المتعاقبة للقبائل العربية واختلاطها بالمصريين.
التعريب:
من المعروف تاريخيا أنه فى بداية العصر الإسلامى كانت اللغات المستخدمة فى الدواوين الحكومية هى اللغات المحلية مثل اليونانية فى الشام والفارسية فى العراق والقبطية واليونانية فى مصر. وظل الأمر على نفس الحال حتى خلافة عبد الملك بن مروان وهو الخليفة الأموى الخامس (664ـ 705 م) ويعتبره الكثيرون من المؤرخين المؤسس الثانى للدولة الأموية وفى عهده تم تعريب دواوين الجند والخراج والبريد.
كان جُل هدف الخليفة الأموى هو صبغ الإدارة المالية للدولة بالصبغة العربية الإسلامية الخالصة وتمكين المسلمين من الإشراف على الإدارة المالية إشرافًا تاما، كمقدمة لأسلمة وتعريب الاقتصاد، حيث ضُربت العملة الإسلامية الخالصة لتحل محل العملات الأجنبية من الدينار البيزنطي والدرهم الفارسي.
كان لهذا القرار عظيم الأثر على اللغة العربية، حيث بدأت أول عملية ترجمة منظمة إلى العربية من الفارسية واليونانية وبالتالى انتقال الكثير من المصطلحات الجديدة إليها علاوة على ظهور طبقة من الكتاب المسلمين. ومحليا أثر هذا القرار على الكثيرين من أقباط مصر فى محاولة تعلم العربية كسيبل وحيد للاحتفاظ بمناصبهم القديمة.
تذكر الدكتورة سيدة إسماعيل الكاشف فى كتابها الذى تمت الإشارة إليه سابقا ص 122 بأن "أول من أمر بترجمة الكتاب المقدس إلى العربية كان الأصبع بن عبد العزيز بن مروان (86 هجرية او 705 م) مع عدة كتب دينية مسيحية أخرى ليعرف المسلمون إذا كان بهذه الكتب ما يمس الدين الإسلامى بسوء".
ولكن ظهور طبقة من الأقباط تجيد العربية للعمل فى الدواوين الحكومية متى وجدوا إلى ذلك سبيلا لا يعنى انتشار العربية على نحو كبير بين الشعب، ولهذا يُحكى أن الخليفة العباسى المأمون عندما زار مصر فى عام 831 ميلادية وتجول فى أسواقها عندما جاءها بنفسه لإخماد ثورة البشموريين - يميل بعض الباحثين إلى اعتبار فشل ثورة البشموريين السبب الرئيسى فى ضعف الوجود المسيحى بدلتا مصر- والتى وقعت نتيجة التعسف من قبل والى المأمون فى الجباية و التى استعصى إخمادها على أخاه المستعصم فى البداية ثم قائدة أفشين لاحقا، احتاج إلى دليل ومرشد طيلة إقامته التى استمرت 49 يوما. وقد ذكر المقريزى عن ذلك "وكان لا يمشى أبدا إلا والتراجمة بين يديه من كل جنس"، ويقال إن دليله كان العالم المصرى أيوب بن مسلمة (لم أتمكن من التحقق من هذه المعلومة). مما يعنى أن العربية لم تكن قد ترسخت لدى الشعب المصرى حتى القرن التاسع الميلادى.
هناك سبب آخر لانتشار اللغة العربية بين الأقباط علاوة على قانون الارتباع الذى أشرنا إليه سابقا وأيضا هجرة الكثير من القبائل ألا وهو ما حدث أثناء خلافة المعتصم وهو الخليفة التالى للمأمون، حيث أرسل لواليه على مصر كيدر بن نصر بن عبدالله بوقف دفع مرتبات الجنود من الضرائب (العطايا) وأمر بإرسالها مباشرة إلى بغداد، حيث اتضح له الشطط والمغالاة من قبل الجنود فى جمع الضرائب وكذلك أبعد العائلات العربية عن ديوان الجند وأرسل العطايا من بغداد إلى الجنود الأتراك المتمركزين فى مصر فقط لأنهم كانوا أهل ثقته، وبالتالى لم تجد هذه القبائل العربية -التى كان نشاطها ينحصر فقط فى المجال العسكرى منذ عهد عمرو بن العاص- بعد انقطاع دخلها سوى الاختلاط بالأقباط على طول الوادى بشكل مكثف من أجل اكتساب الرزق. ومن هنا بدأت اللغة العربية فى الانتشار بشكل مكثف بين الأقباط.
الحاكم بأمر الله وبداية النهاية للغة القبطية:
خضعت مصر عام 972 ميلادية للفاطميين الذين استقطعوها من الخلافة العباسية ببغداد والذين تباينت سياستهم تجاه المسيحيين أيما تباين. فاتسمت سياسية الخليفة الأول لهم بمصر وهو المعز لدين الله بالتسامح الشديد مع المسيحيين ومن بعده ابنه العزيز بالله الذى قيل أنه تزوج من سيدة مسيحية ملكانية يذهب البعض إلى أنها أم ابنه الحاكم بأمر الله. ومن مظاهر حبه لها أن جعل أحد أخواتها بطريركا على بيت المقدس والآخر بطريركا على الإسكندرية. ولكن الأمر اختلف بشكل جذرى مع وصول الخليفة الحاكم بأمر الله إلى سدة الحكم.
تميزت خلافة الحاكم بالاضطراب الشديد ومرجع ذلك هو شخصيته العجيبة. فمنذ عام 1005 ميلادية استبدل سياسة التسامح التى انتهجها أسلافه فى التعامل مع المسيحيين بأخرى متشددة ومتعنتة وأصدر سلسلة من الأوامر تحتوى على الكثير من الممنوعات وتتوعد من يقدم عليها بالعقاب بالقتل أو التعذيب.
يذكر الدكتور أيمن فؤاد سيد فى كتابه ( الدولة الفاطمية فى مصر تفسير جديد) ص 98" ألزم أهل الذمة بلبس الغيار, ومنعهم من دخول حمامات المسلمين, وهدم كنائسهم وبيعهم وأمرهم باعتناق الإسلام أو الخروج إلى بلاد الروم, مما اضطر الكثيرين إلى اعتناق الإسلام كارهين".
كذلك أمر بحرق كنيسة القيامة ببيت المقدس وهو الأمر الذى يعتبره الكثير من المؤرخين سببا مباشرا للحروب الصليبية. مع أن نفس المصادر تعود لتؤكد أنها أعاد بناءها مرة أخرى ثم أبدى قدرا من التسامح فى نهاية أيامه مع المسيحيين قبل أن يُقتل على يد أخته ست الحكم وتختفى جثته للأبد.
وفيما يتعلق باللغة القبطية فقد أمر بإبطال استخدامها وتعهد بقطع لسان كل من يتكلم بها فى الشوارع والأسواق أو حتى فى المنازل مع أولاده. مثَّل هذا القرار الضربة القاضية للغة القبطية، حيث بدأ الناس فى تعلم العربية خوفا من بطش الحاكم ومع الوقت أصبحت القُداسات تُقام بالغة العربية التى يبدو أن قطار انتشارها كان قد انطلق بأقصى سرعته ليس فى مصر فقط بل فى العالم أجمع، فمع نهاية القرن الثانى عشر كانت اللغة العربية قد أصبحت لغة العلم والحضارة على مستوى العالم ويتسابق الجميع على تعلمها بعد أن استطاعت من خلال الترجمات أن تستوعب كل تراث العالم القديم فى مصر وبابل واليونان وبالتالى من الظلم أن نطلب من اللغة القبطية أن تصمد بشكل كامل أمام لغة باتت الأهم فى العالم فى ذلك الوقت. وفى هذا الصدد يذكر الدكتور زكارى لوقمان –أستاذ التاريخ الحديث للشرق الأوسط بجامعة نيويورك– فى كتابه المهم (تاريخ الاستشراق وسياساته) ص 71، نقلا عن الشاعر الإسبانى بول ألفاروس "يحب المسيحيون قراءة أشعار وقصص العرب ويدرسون الفقهاء والفلاسفة العرب، لا ليفندوها بل ليكتبوا بلغة عربية صحيحة وفصيحة، واأسفاه على الشباب المسيحى الموهوب يقرأ الكتب العربية ويدرسها بحماس، لقد نسوا لغتهم. فمقابل كل فرد قادر على أن يكتب خطابا باللاتينية إلى صديق، هناك ألف ممن يستطيعون التعبير عن أنفسهم بالعربية بفصاحة، وكتابة قصائد بهذه اللغة أفضل من العرب أنفسهم".
هكذا وبعد أن تسيدت اللغة العربية أخذ علماء الأقباط يصيغون مؤلفاتهم باللغة العربية مثل أولاد العسال و جرجس بن العميد و أبو شاكر بن الراهب والقس بطرس السدمنتى. و لقد كان أول من ألف كتابا مسيحيا باللغة العربية هو الأسقف ساويرس بن المقفع مؤلف (تاريخ بطاركة كنيسة الإسكندرية القبطية).
ولهذا يُذكر أن البابا «غبريال بن تريك» وهو البطريرك السبعين (1131-1146 م) عندما وجد أن الغالبية من الشعب لم تعد تفهم اللغة القبطية، أصدر أوامره بقراءة الأناجيل والعظات الكنسيّة وغيرها من القراءات باللغة العربية بعد قراءتها بالقبطية.
فى الحلقة القادمة والأخيرة من هذه الثلاثية نعرض محاولات إحياء اللغة القبطية مع عرض موجز لبعض مفرادتها التى لا تزال تتداولها ألسن المصريين.