القاهرة 30 يونيو 2020 الساعة 10:58 ص
بقلم: أسامة الزغبي
اللغة هى وعاء الفكر وحاوية التراث وأبرز مكونات الهوية، وكما أن هناك أكثر من طريقة لدراسة التاريخ فأزعم أن دراسة تاريخ تطور لغة ما لدولة ما هو وسيلة ناجعة لدراسة تاريخها بشكل عام. واليوم نتعرض لدراسة تاريخ تطور لغة مصر بشكل عام مع التركيز بشكل خاص على اللغة القبطية التى تأبى الاندثار، ومازال الكثير من مفرداتها يتدوال على ألستنا حتى الآن.
كُتبت اللغة المصرية القديمة بعدة خطوط أشهرها هو الخط الهيروغليفى ويعنى المقدس، وكان هو الخط المستخدم فى النقوش الدينية على جدران المعابد والمقابر وهو عبارة عن كتابة تصويرية بالإضافة لوجود أبجدية وإن كانت معقدة إلى حد كبير ـ يعود أقدم نص مكتوب بهذا الخط إلى عام 3300 قبل الميلادـ كذلك كان هناك خط آخر خاص بالكهنة ويسمى الخط الهيراطيقى، ولكن يبدو أن هذين الخطين كانا من الصعوبة بمكان فتعذر على الكثيرين تعلمهما، فكانت هناك حاجة ملحة لاستحداث خط جديد يسهل تعلمه من قبل الشعب وهنا ظهر الخط الديموطيقى.
الخط الديموطيقى يعنى الخط الشعبى، ويبدو أنه يمثل تبسيط للخطين السابقين وإن ظهر فى مرحلة متأخرة نسبيا والتى تقدرها المصادر التاريخية بفترة الأسرة الخامسة والعشرين فى القرن الثامن قبل الميلاد واستمر حتى القرن الخامس الميلادى.. وآخر نص مكتوب بهذا الخط موجود بمعبد فيلة وهو عبارة عن جرافيتى يعود إلى عام 452 م. جدير بالذكر أن الخط الديموطيقى هو أحد الخطوط الثلاثة المكتوب بها نص حجر رشيد الشهير الذى تم اكتشافه عام 1799 فى قلعة جوليان بمدينة رشيد على يد جنود الحملة الفرنسية والذى تمكن الشاب الفرنسى جان فرانسوا شامبيليون من فك طلاسمه، وبهذا تمكنا لأول مرة من قراءة اللغة المصرية القديمة وكان ذلك عام 1822.
بدخول الإسكندر الأكبر إلى مصر عام 323 قبل الميلاد ومن بعده تأسيس دولة البطالمة التى استمرت حتى عام 31 قبل الميلاد أصبحت اللغة اليونانية هى اللغة الرسمية المستخدمة فى دواوين الحكومة وسيطول استخدامها حتى نهاية العصر البيزنطى الذى ينتهى بدخول المسلمين لمصر. وقد بذل البطالمة الأوائل جهودا كبيرة فى نشر الثقافة واللغة اليونانية ومكتبة الإسكندرية خير دليل على ذلك.
توازى استخدام اليونانية مع الخطوط الأخرى القديمة طويلا، فآخر نص هيروغليفى (عُثر عليه حتى الآن) يعود لعام 395م، وآخر نص هيراطيقى بالعام 476 م، و كلاهما فى معابد فيلة Philae بأسوان حتى حرّم الإمبراطور ثيودوسيوس الأول (397ـ 395م) الديانة المصرية الوثنية، وأُغُلقت الهياكل تنفيذا لأمره وأصبحت المسيحية الأرثوذكسية هي الديانة الرسمية لمصر.
ظهور اللغة القبطية:
إذن لقرون طويلة كانت اليونانية هى اللغة الرسمية المستخدمة فى الوثائق الحكومية، وهى أيضا لغة البشارة بالمسيحية، ولهذا سوف يتم استخدامها فى الكنائس فى كثير من الأحيان، وفى ذلك أيضا تفسير لوجود كلمات وأسماء كثيرة فى القبطية من أصل يونانى.
كانت الديموطيقية هى اللغة الشعبية، ولكن صعوبة إلمام الناس بعشرة آلاف حرف وعلامة جعل التمكن من هذه اللغة أمرا شاقا على غالبية الناس، فتم أخذ الأبجدية اليونانية بالكامل والتى تبلغ 24 حرفا مع إضافة 7 حروف من اللغة الديموطيقية وهى: شاي، فاي، خاي، هورى، جنجا، شيما، دى .وكانت تمثل أصواتا غير موجودة باليونانية. ومن هنا ظهرت اللغة القبطية وأصبحت لغة المصريين جميعا. حدث هذا التغيير المهم حوالى 100 قبل الميلاد.
اختيار المصريين للأبجدية اليونانية له ما يبرره، فهى لغة المحتل والسائدة فى الدوواين، وأيضا كانت لغة مار مرقص البشير وإنجيله مكتوب باليونانية وهى فضلا عن كل ما سبق حاوية التراث الإغريقى العظيم.
جدير بالذكر أن الكتابة القبطية هى الوحيدة بين صور الكتابة المصرية التى تسجل الحروف المتحركة، فتعطينا فكرة دقيقة عن طبيعة نطق الكلمات المصرية، و بالتالي فإنها تُظهر أيضا اختلاف نطق اللغة من منطقة إلى أخرى ، فتتضح فى الكتابة القبطية فوارق اللهجات من منطقة إلى أخرى.
ولهذا نستطيع من قراءة الوثائق القبطية أن نحدد اللهجة المكتوبة بها، هل هي بحيرية أو صعيدية أو فيومية أو بهنساوية أو أسيوطية أو إخميمية، أو واحدة من اللهجات الفرعية الموجودة فى نقاط التلاقي بين المناطق الناطقة باللهجات الرئيسية.
سارت اللغتان اليونانية والقبطية جنبا إلى جنب فترة طويلة من الزمن، ولكن مع الوقت حدث ما أدى إلى تفوق كاسح للغة القبطية على اليونانية. كان ذلك بسبب الجدال والنزاع الديني بين كنيستيّ الإسكندريَّة والقُسطنطينيَّة الذى بدأ بمجمع نيقية بناء على دعوة الإمبراطور قسطنطين عام 325 م لمناقشة آراء الراهب السكندرى أريوس، والذى بلغ أقصاهُ في مُنتصف القرن الخامس الميلادى، حينما اختلفت الكنيستان حول طبيعة المسيح. فاعتقدت كنيسة الإسكندرية بأنَّ للمسيح طبيعة إلهية واحدة (مونوفيزقية)، وتبنَّت كنيسة القُسطنطينيَّة القول بِثُنائيَّة الطبيعة المُحدَّدة في مجمع خلقدونيَّة والذى انعقد فى451 ميلادية بدعوة من الإمبراطور البيزنطى مارقيان، ورأت أنَّ في المسيح طبيعة بشريَّة وطبيعة إلهيَّة، وتبنَّت هذا المذهب لِيكون مذهبًا رسميًّا للإمبراطوريَّة، وأنكرت نحلة المونوفيزقيين، وكفَّروا من قال بأنَّ للمسيح طبيعة واحدة.
لم يقبل مسيحيو مصر ما أقرَّهُ مجمع خلقدونيَّة وأطلقوا على أنفُسهم اسم الأرثوذكس» أي أتباع الديانة الصحيحة، وعُرفت الكنيسة المصريَّة مُنذ ذلك الوقت باسم «الكنيسة القبطيَّة الأرثوذكسيَّة»، ومال المصريّون إلى الانفصال الدينى عن الإمبراطوريَّة البيزنطية، فأعلنوا التمرّد.
كانت أولى مظاهر ذلك التمرد إلغاء كنيسة الإسكندريَّة استخدام اللُغة اليونانيَّة في طُقوسها وشعائرها واستخدمت بدلًا منها اللُغة القبطيَّة. بهذا الشكل تصل اللغة القبطية إلى قرون مجدها منذ منتصف القرن الخامس الميلادى بعد أن باتت حجر الزاوية فى التمسك بالهوية الدينية لمصر ضد إرادة بيزنطة التى استمرت فى اضطهاد المصريين إلى عهد هرقل الذى حاول فرض مذهبة التوفيقى المعروف بالمذهب المونوثيلى أو مذهب المشيئة الواحدة على المصريين، ولهذا أرسل واليه المعروف بالموقوقز أو الموقوقس كوالى وبطريرك فى نفس الوقت، ولكن رفض أقباط مصر هذا المذهب أيضا وكان نتيجة هذا الرفض اضطهاد كبير للإقباط وهروب البابا المصرى بنيامين إلى صحراء وادى النطرون.
إن أقدم وثيقة موجودة إلى الآن تسجل واحدة من المحاولات الأولى لكتابة لغة التخاطب المصرية بالحروف اليونانية Proto-Coptic) هى بردية هايدلبرج 414 التى ترجع إلى منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، وتشتمل على قائمة لمفردات قبطية بحروف يونانية مع ما يقابلها فى المعنى من الكلمات اليونانية.
استمر ازدهار اللغة القبطية حتى عُرِبت الدواوين الحكومية فى العصر الأموى، كما سنعرض لاحقا.