القاهرة 25 يونيو 2020 الساعة 01:26 م
كتب: علي سرحان - باحث آثري بكلية الآثار جامعة جنوب الوادي
المصريون القدماء هم أناس تمسكوا بوتر السلوك والأخلاق ، ويشهد علي ذلك من خلال نصوصهم وتعاليهم ونصائحهم ، وكيف نهج المصريون القدماء سلوكاً طيباً نابعاً عم أصالة أخلاقية ضارية في عروق هذا الشعب ، ويعد هذا السلوك من الأدب التهذيبي أو كما يسميه البعض أدب الحكمة والنصائح من أرقى أنواع الأدب المصري القديم ، فمن يقرأ هذه النصائح يستطيع أن يدرك ما وصل إليه المصريون القدماء من رقي فكري واعلائهم للقيم الإنسانية النبيلة ، وأن تحصيل العلم كان من أسمى الغايات التي يسعى المصري القديم إلي تحقيقها ، وترجع أغلبية النصوص الأدبية التي عثر عليها حتى الآن إلى ما قبل عصر الدولة الحديثة ، وخاصة عصر الثورة الاجتماعية الأولى وإلى عصر الدولة الوسطى ، اعتبر الفراعنة الزواج علاقة مقدسة لا يجب أن تنتهى حتى بالموت ، لذلك حرص حكماء وكهنة مصر القديمة على تقديم العديد من الوصايا للأزواج ، وخاصة للرجال ، من أجل ضمان حياة زوجية سعيدة ، بعد أن يحسنوا اختيار الزوجة ويصبحوا مؤهلين لتأسيس بيت وتكوين أسرة .
سُجلت الآداب المصرية علي صفحات البردي بالخط الهيروغليفي والهيراطيقي منذ أواخر الآلف الرابع قبل الميلاد ، ثم الخط القبطي حوالي القرن الثاني للمسيح ، تناولت في تلك النصوص نصائح يوجهها آباء مقفون... ومعلمون من الكهنة والمتدينيين ... ومنم وزراء مثال "بتاح حتب" الذي كان يشغل منصب وزيرا في القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد ، ويعتبر من أقدم أصحاب التعاليم في مصر القديمة وفي سياق حديثه لوالده سبيل الاستقرار في الأسرة قائلاً له " اذا أصبحت كفئا كون أسرتك...وأحبب زوجتك..واستر ظهر..ها..وعطر بشرتها بالدهن ترياق لبدنها..وأسعدها ما حبيت ، فالمرأة حق نافع لولي أمرها .. ولا تتهمها عند سوء ظن .. وامتدحها تخبت شرها .. فان نفرت راقبها واستمل قلبها بعطاياك تستقر في دارك .. وسوف يكيدها أن تعاشرها ضرة في دارها " .
وفي مقابل قيامه بهذه المسؤليات الأسرية ، دعاه إلي سبيل التعم والبساطة والتوسط قائلاً " ساير نفسك ما حييت .. ولكن لا تتجاوز العُرف واياك أن تبتر ساعة المتعة .. وعندما يواتيك الثراء ينبغي أن يستمتع القلب .. فلن يجدي الثراء اذا أهمل القلب .. وكن سمح الوجه مادمت حيا " .
الحكم والتعاليم :
أهم ما وصل إلينا من هذا اللون من الأدب ثماني وثائق، وهي حسب ترتيبها التاريخي: حِكَم وأمثال «بتاح حتب»، وتعاليم «كاجمني» وهما من الدولة القديمة؛ وتعاليم «مربكارع» من العهد الإقطاعي، ووصايا أمنمحات لابنه «سنوسرت»، وتعاليم «سحتب أب-رع»، وتعاليم «خيتي» من الدولة الوسطى، وتعاليم «آني» وتعاليم «أمنموبي» من الدولة الحديثة، ويرى القارئ من ذلك أن لدينا سلسلة متصلة الحلقات من هذا اللون من الأدب تمثِّل كل عصر من عصور التاريخ المصري.
تعاليم بتاح حُتب :
جدير بالذكر هنا أن هذه التعاليم — لكثرة استعمالها وشيوعها — كان التلاميذ يكتبونها على قِطَع من الخزف وشظيات من الحجر الجيري الملساء، والسبب في ذلك طبعًا غلاء ورق البردي، وعدم كفايته لعددٍ جمٍّ من التلاميذ، ومعظم هذا الخزف يرجع إلى عهد الرعامسة، وعُثِر منه حديثًا على كميات هائلة مكتوبة وعليها فقرات عدة من هذه الحِكَم والتعاليم.
كان المصري عندما يشعر بدنو أجله يكتب وصيته، فيقسِّم أملاكه، وغالبًا ما كان ينقش صورةً من هذه الوصية على جدران مقبرته. على أن الأمر لم يكن يقتصر على ذلك، بل كان أحيانًا يخلف لابنه الأكبر نصائح وتعاليم عن تجاربه في الحياة وفي وظيفته؛ لتكون عونًا له على أداء عمله الحكومي، وعلى الضرب في الحياة على أحسن حال، وسيدرك القارئ أن الحكيم كان دائمًا يشير إلى ما يرمي إليه في تعاليمه في افتتاحها وفي نهايتها.
وأقدَمُ مَن خلف لابنه نصائح من هذا النوع هو"بتاح حتب"، وقد ذكر لنا أنه كان وزيرًا للملك «إسيسي» (2670ق.م تقريبًا)، وتدل النقوش على أنه كان لهذا الملك وزير يحمل هذا الاسم، ولا يزال قبره معروفًا لنا في سقارة حتى الآن. وبالرغم مما يحوم من شكوك حول نسبة هذه الوثيقة إلى هذا الوزير، فإنه من المؤكد أنها قديمة جدًّا، قد وصلت إلينا منها ثلاث نُسَخ يرجع عهد اثنتين منها إلى الدولة الوسطى، والثالثة كُتِبت في الدولة الحديثة. ومن الجائز أن بعض هذه النصائح قد فَاهَ بها هذا الوزير العظيم، كما يحتمل أن بعض أمثال التوراة التي تُنسَب إلى سليمان قد فَاهَ بها حكيمنا فعلًا.
ومهما يكن من أمر هذه التعاليم، فإن الغرض منها إرشاد التلميذ وغيره إلى السير الحكيم والأخلاق الحسنة، ثم ليكون أسلوبها هدفًا مثاليًّا يحتذيه التلميذ في تعبيره؛ ليصبح ذا بصر بفنون الكلام، وليعبِّر عمَّا في نفسه بلغة مختارة جديرة بموظف محترم، وهذا هو السر في ذيوعها في عهد الدولة الوسطى، ثم في الدولة الحديثة.
ونجد في النسخة التي من عصر الدولة الحديثة السبب الذي من أجله ألَّفَ «بتاح حتب» تعاليمه هذه، فيقول لجلالة الملك «إسيسي»: قد حلت الشيخوخة ، وبدا خرفها، وامتلأت الأعضاء آلامًا ، وظهر الكبر كأنه شيء جديد ، وأضحت القوة أمام الهزال ، وأصبح الفم صامتًا لا يتحدث ، وغارت العينان ، وصُمَّتِ الأُذُنان … وأضحى القلب كثير النسيان غير ذاكر أمسه ، والعظام تتألم من تقدُّم السن ، والأنف كتم فلا يتنفس ، وأصبح القيام والقعود كلاهما مؤلمًا، والطيب أصبح خبيثًا، وكل ذوق قد ولَّى، فتقدُّم السن يجعل حال المرء سيئًا في كل شيء.
فمرني أصنع لي سندًا (عكازة) لكبر سني ، ودَعِ ابني يحتل مكاني ، فأعلمه أحاديث مَن يسمعون ، وأفكار مَن سلفوا، وهم الذين حرموا السلف في الأزمان الخالية، ولَيْتَهم يعملون لك بالمثل؛ حتى يُتَّقَى الشجار بين الناس، وتخدمك مصر.
فأجاب جلالته: «علِّمْه أولًا الحديث … وإني أرجو أن يكون مثالًا لأولاد العظماء، وليت الطاعة تكون رائِدَهُ، ويدرك كل فكرة صائبة ممَّن يتحدث إليه، فليس هناك ولد يحرز الفهم من تلقاء نفسه.
ولا أشك في أن القارئ يرى في هذا الوصف البديع للشيخوخة، وفيما يهدف الناصح إليه من وراء تعليم ابنه، صورةً مدهشةً من حيث الدقة في التعبير ونفاذ البصيرة وضعها كاتب منذ آلاف السنين.
كذلك ظهرت العديد من الحكم للحكيم بتاح حتب نذكر منها "لا تكونن متكبرًا بسبب معرفتك ، ولا تكونن منتفخ الأوداج لأنك رجل عالم ، فشاوِر الجاهل والعاقل ؛ لأن نهاية العلم لا يمكن الوصول إليها، وليس هناك عالم مسيطر على فنه تمامًا ، وإن الكلام الحَسَن أكثر اختفاءً من الحجر الأخضر الكريم ، ومع ذلك فإنه يوجد مع الإماء اللائي يعملن في إدارة أحجار الطواحين".
كذلك ذكر في تعاليم بتاح حتي أيضاً " إذا اتخذت امرأة مهذبة مثقفة يفيض قلبها بالمرح ويعرفها أهل بلدتها، فترفق بها ولا تطردها بل اعطها ما تأكل منه حتى يكتنز جسمها من الطعام". "إذا كنت عاقلاً فأسس لنفسك دارًا، وأحبب زوجتك حبًا جمًا، وآتها طعامها وزودها بالثياب وقدم لها العطور لينشرح صدرها ما عاشت، وإياك ومنازعتها، ولا تكن فظًا ولا غليظ القلب، فباللين تستطيع أن تتملك قلبها، واعمل دائمًا على رفاهيتها، ليدوم صفاؤك وتتصل سعادتك".
وأوصى آخر "أحب زوجتك من قلبك فهى شريكة حياتك.. املأ بطنها.. واكس ظهرها.. واشرح صدرها ماعشت، إياك أن تقسو عليها ففى القسوة خراب البيت الذى أسسته.. وهو بيت حياتك وبيت أولادك" ، عاملها باللين ووجهها بالمجاملة فالمجاملة للمرأة كالماء للسفينة فى مجرى النهر.. لا يمكنك أن تسحب سفينة فى نهر جف ماؤه ولكنها تطفو بسهولة فوق الماء ويسهل تحريكها فى أى اتجاه".
لقد بلغنى انك اهملت دراستك ، وانك تتسكع من طريق الى طريق ورائحه الخمور تفوح من فمك ، و قد ابعدت عنك الناس ، انك مثل هيكل من غير اله ومثل بيت بلا خبز فيه ،
لقد رآك الناس وانت تتسلق الجدران وتهشم الالواح فى الشوارع الناس يهربون منك وانت تضرهم وتحدث بهم جراحا ، الا تعلم ان الخمر اثم ؟ إقسم لى انك لن تقربها وأن لا تسلم قلبك لإناء الخمر وان تنسى الشرب !
انت كنت ماهر فى الغناء على الارجول واستعمال المزمار والعزف على الكنارة والشدو على العود !
كنت تجلس امام الغانيه وتُرش بالعطور وتتدلى من رقبتك عقود الازاهير وتطبل على بطنك .. ماذا حل بك"
هذا النص هو نصائح مُعلم الى تلميذه من الأسرة ال19 يظهر فيه المُعلم يوبخ تلميذه وكله أسف على ما قد حل به من تدهور فى الاخلاق وأهمال لتعليمة والسعى وراء نزواته، عُمر النص 3100 عام تقريباً