القاهرة 23 يونيو 2020 الساعة 11:23 ص
كتبت: سماح ممدوح
كثيرة هى الروايات التى حكت عن الواقع المعاش، بنسق تاريخى، وهو نوع من الأدب استحدثه الناقد والفيلسوف المجرى "جورج لوكاش".
وكان هناك واحد من أهم الكتاب العرب (المصريين تحديدا) الذين برعوا فى هذا الفن.. إنه الراحل المبدع، جمال الغيطانى، وكيف لا وهو الجليس والصديق القريب لأهم المؤرخين، وعلى رأسهم (ابن إياس) كم حدثنا الغيطانى عن هذا المؤرخ، وعن ما خطه وتركه إرثا لنا من مئات السنين.
كانت درة الأعمال التاريخية التى أنتجها الغيطانى هى (الزينى بركات) الرواية التى مازالت تتناول بالدراسة والنقد حتى الآن.
رواية (الزينى بركات) ذات شقين، الشق الأول هو الظاهر، والذى يحمل فى جنباته الشق الثانى، الباطن. أو أن النص التاريخى المسرد، يخبر عن الواقع المعاش.
تدور أحداث الرواية، فى الفترة التاريخية فى أواخر عهد المماليلك حتى الاحتلال العثمانى لمصر. وهذا بالنسبة للشق المسرود، لكن الشق الذى تنبئ عنه فى الواقع ، هى فترة الستينيات من القرن الماضى.
وهذه الفترة، كانت تخضع فيها الحياة فى مصر، لكل ما جرى فى الأحداث التاريخية، من (البصاصين، أو أجهزة المخابرات، والمعتقلات والتعذيب. من أجهزة الرقابة على كل شيء خاصة الرقابة على الإنتاج الفكرى. والزينى بركات، المخلّص الذى أراد العدل، ونصرة المظلوم، لكنه حاد عن خطه الأول).
نبدأ الرحلة مع البصاصين...
نظام البصاصين،الذى كان أقوى جهاز فى الدولة، ربما كان أقوى من السلطان، والأمراء، والقضاء، والمحتسب.
على رأس جهاز (البصاصين) زكريا بن الراضى. الذى ما ترك وسيلة فى معرفة كل كبيرة وصغيرة فى الدولة، إلا وفعلها.
تحكى الرواية عن كل ما يخص هذا الجهاز، كيف يجند أفراده، كيف يعملون، مدى هوسهم بالعمل، حتى إن كبير البصاصين خصص لكل مواطن ملفا لديه، يكتب فيه تاريخ حياته، وعائلته، عادته، وكأنه يعيش معه. ووصل هوس كبير البصاصين إلى أنه تمنى لو يستطيع معرفة ما يفكر به الناس، وتمنى لو وجدت طريقة، يطلع بها على مستقبل الوجود كله، حتى يستطيع أن يحدد مثيرى القلاقل، فيمنع أبويه من إنجابه، لكى يجتث القلاقل من بذرتها، كما قال.
كبير البصاصين الذى بنى زنازن أسفل منزله، لتعذيب المعتقلين وحملهم على قول ما يريد استخلاصه منهم. حتى إنه نسى البعض ممن قبض عليهم منذ عدة سنوات دون إثبات ذنب أو حتى محاكمة.
ألم يكن هذا ما أخبر به، الكثير من المعتقلين بعد تجربة الاعتقال فى فترة الستينيات، فيما كتبوه فى روايتهم عن (أدب السجون).
جهاز الرقابة على الإنتاج الفكرى
كان هذا أيضا من أقوى عناصر الرواية، والذى تمثل فى شخصية (إبراهيم بن الليمون والسكر) والذى عين في منصب كبير شعراء الدولة، لإخلاصه لكبير البصاصين، حتى إنه لم يكن فى الدولة كلها من يكتب شعرا، أو يغنى مغنى الربابة كلاما، ولا الأراجوز، ولا حكاء السير الشعبية، ولا لأي كائن كان، مسموح له بلفظ كلمة على العامة إلا بعد موافقة إبراهيم بن السكر والليمون عليها.
بالإضافة إلى العمل الذى أسند إليه فيما بعد وهو (أن يصبح البوق الإعلامى للدولة) ينشر ويشيع ما يمليه عليه كبير البصاصين، من فتن وشائعات، وكل ما يؤمر به فى صالح كبير البصاصين.
وقد كلفه كبير البصاصين بتأليف حكاية عن (الزينى بركات) بالتأكيد دون ذكر اسمه، وأمره بتأليف حكاية عن رجل لم يُعرف من تاريخه شيء، ويأتي ليكون على رأس أعلى المناصب فى الدولة. وأمره بنشر الحكاية على جميع مستويات الشعب، فى المقاهى الخاصة بفئات مختلفة، الراقى منها والوضيع. وينظر ماذا سيكون من رد فعل الناس.
ألم يجئ على هذا البلد يوم، صودرت فيها صحف، وكتب، ومنع الكثير من الإنتاج الفكرى، الذى شعر فيه النظام ببعض التهديد والقلق.
نأتى إلى العنصر الثالث (الزينى بركات)
ربما هو الركيزة الأساسية للرواية، وهو أيضا من أكثر الشخصيات المحيرة.
فكيف يتحول من خاف من عاقبة الخطأ أو التقصير فى أداء المسؤلية، أو رد الحق للمظلوم، إلى طاغية، ربما تفوق فى غيه على كبير البصاصين.
الرجل الصالح الذى رفض المنصب فى البداية، وما قبِلها إلا لينصف الشعب المكدود، لكنه فى سبيل ذلك تحول إلى ظالم يقبض على البعض، ويشنق البعض الآخر، بل ويجير فى الأحكام على البعض، فقط ليرهب الباقين.. وكما قال:
"وبإذن الله أنوى شنق عدد منهم فى البداية حتى يرتدع الباقون"
وذاك عندما قدم خططته لكبير البصاصين، وعندما أقر عقاب من لن يخبر عن مولوده الجديد.
وهل كان الغيطانى يقصد بالزينى بركات، الرئيس جمال عبد الناصر؟
على أي حال، رصدت المراجع التاريخية الكثير مما أتى فى رواية الزينى بركات عن المظالم والتعذيب والقمع، وكون وجود هذه الإجراءات التعسفية فى حق الناس قائمة، فمعناه أن الطريق طويل أمامنا حتى نغير الحاضر الذى نضطر دائما لإلباسه عباءة التاريخ المزركشة للتوارى فيها.