القاهرة 18 يونيو 2020 الساعة 11:32 ص
بقلم : محمد فيض خالد
القاهرةُ أو مصر كما تَعوّدَ على تسميتها أهلَنا في قُرى الصّعيدِ الأوسط ، مَثّلت لِوقتٍ قريب حَاجِزَا نفسيا ، ومرتقىً صَعّب على كثيرين تجاوزه ، فمَا إن تُذكَر أمامكَ كلمة " مصر" حتى تتَسلّطَ على رأسك الوساوس ، وتَحُومُ من حَولِكَ المخاوفَ ، وتنتاب جسدك قشعريرة غريبة ، يسري معها تيار الخوف في العُروقِ ، تزداد ضربات القلب فجأة ً، حتى ليوشك أن يَنخَلِعَ من مَكانِه ويولي الأدبار.
أذكرُ في قريتنا البعيدة بُعدَ أحلام أهلها الطيبين ، والمُتَوغلة في مَجاهلِِ الصَّعيد ، كانت الحقولُ تَمتدُّ من حول بيوتنا الفقيرة في ذَاكَ الزَّمان بِلا نهاية ، فحجزتنا على العالم وما يدور من حولنا ، حَتى ظننا وقتئذٍ بأن اقتحامَ هذا السِّياج ، ضربٌ مِن الخَيالِ ، بل وتَوهَمَ البعضُ فادّعى رهبةً؛ أن تخطيهِ مُجَازفة غَيرَ محمودةِ العواقب ، وإلقاءٌ بالنّفسِ في أحضان التّهلُكةِ يُلامُ صاحبها.
اعتقدتُ وأنا صَغِيرٌ أودِّعَ طُيورَ المغربيةِ ، التي اكتظّت بِهَا السّماء قُبيلَ المغيبِ، تَلف حَولَ أسطح البيوت متجهة لأوكارها ، تَخنِقُ ألوانها الأفق الأزرق ، الذي ذبحته صُفرة شمس المغيب ، التي أوشكت أن تُلقي نظرتها الأخيرة على أهلِ الأرضِ قبل أن يبتلعها الظّلام ، اعتقدتُ أنّ الشّمس لن تعودَ ادراجها ثانيةً ، كُنتُ اَلِف ذراعي الصغير حَولَ جذوع نخلاتِ الجِسرِ الكبير ، أرجوها أن تمسك الشّمس عن المغيبِ ، أتلمس كرنافها الصَّلب في دفءٍ اُسمِعه صوتي.
قديما تلاعبَت الظُّنونُ برأسِ أهل قريتنا من الإنسانِ القاهري ، ذاكَ المخلوق الذي توجّست نفوسنا مِنهُ قبلَ أن نُخَالِطهُ، فمن قائل يقولُ: يسرق الكحل من العين ، ومن مُرددٍ بثقةِ المُجَرِّب ، حين ينفضَ ما عَلقَ بجلبابهِ من قش الأرض و تراب المصطبة، بعد أن دَلَقَ فضلة الشّاي من كوبهِ: بعد ما تسلم على النفر من دول تعد صوابعك..
كنتُ افترش عندها الأرضَ بجوارِ القوم ، اتَسمّع حكاياتهم ، واتلذذُ بمكائدِ اللّصوص من أهلِ مصر يقصها الكِبار ، ولكنني كنت اُغَافِلَ ِرفاقي فاتحسّس أصابعَ يدي ، اقبض عليها أفركها بقوةٍ بين الحينِ والآخر ، ثم أدسها في جيبي.
وفي المساءِ تتعقب المخاوف أحلامي ، فأهبّ فَزِعا امسك بيدي ، احمد الله على أنّها سليمة.
زمان لم تخل قريتنا من فيلسوفٍ -وما أكثرهم بيننا- يتلاعبُ عن جَهلٍ بعقول ِ البُسطاء ، وفِي نفسهِ نوازع من شهوةِ الزَّعامة وأضواء النجومية ، يَقصُّ من بناتِ أفكارهِ فصولًا من كتابِ المخاطر في مصر ، والغَالِب فيما يرويه لا يخرج عن التلفيقِ ، يبدأ فيقول : قالوا .. سمعت .. حكوا لي .. وفي الحقيقة لو فَكَرَ أولئِكَ السُّذَج لفضحوا زيفه ، فالبطل الرَّحالة لم يتجاوز زمام الناحية.
اقتربتُ ذاتَ مرةٍ من أحدِ أولئكَ الفلاسفة ، وقلتُ بسذاجةِ الصِّغار : عايز أروح مصر إللي بيحكوا عنها..
تمعّن فيّ مستنكرا ، بعد أن أزاحَ الطاقية عن رأسهِ المُدبب ككوز الشمام ، وقال : مصر بعيدة على أبو جحش.
سمعتُ جارتنا تحكي ذاتَ ليلةٍ ، وأنا نائمٌ في حجرِ أمي أمام عتبةِ بيتنا صيفا ، عن بناتِ مصر صويحبات يوسف حديث الفتنة والغواية، فالواحدة تستطيع بغمزةِ عينٍ وضربة رِمش ، أن تُوقعَ بلدا بحالهِ مثل بلدنا ، في شباكِ هواها ، وتغرِقهم في بحر غوايتها ، وأن جمالهن يُنسي العابد سجادته.
أذكرُ أن زَارَ قريتنا أحد الأغراب، كانَ صديقا لجارنا في العسكرية ، انتفضَ الصِّغار فأذاعوا أن الغريبَ من أهلِ مصر ، شعرَ الضيف بثقلِ نظراتنا وهي تتعقبهُ، فاخَرجَ قِطَع الحلوى يُهديها إيانا، جَفل الصّغار وتراجعوا ، وعيونهم مُصَوبةٌ نحوه في وَجلٍ، تقدّمت من صاحبنا بجسارةٍ ، وانتزعت الحلوى من كفهِ وشرعت في التهامها ، وبعد أن تأكدوا من سلامتي ، هجموا عليهِ كجحافلِ النّاموس المُلتفة حَولَ شواشي أعواد الذُّرة ، انتهبوا جيبه في غَمضةِ عينٍ.
قالوا لنا ونحنُ نجوب الدُّروبَ الضّيقة في ألعاب الليل ، إن زِحامَ مصر لا يترك لكَ الحرية كي تختار، فالعربات المُسرِعة كالرِّيحِ ، التي اكتظّت الشّوارعَ بها من كلِّ نوعٍ ، تتَخطّف أرواح البَشر ، يخرج المرءُ من بيتهِ وهو لا يأمن أن يعود..
كبرنا وكبرت معنا تلك السَّخَافات ، لم تُفارِق رؤوسنا لحَظةً ، تُومِضُ فِينا وميضَ نجوم اللّيلِ في سماءِ قُرانا المظلمة ، كلّما تجرّأت أقدامنا أن تخطو خطوةً نحوَ مصر ، حتى وقعَ ما كُنّا نحذر، وتَبدّلَ الحالُ غَيرَ الحالِ، وجَاءَ اليوم الذي تَمرّدَ فيه القروي على مخاوفهِ ، وكسرَ قيودَ الرّهبة التي سَلَسلَ بها نفسه طوعا ، رأيناه وهو يهجرُ عُشَه الآمن مُنسَاقا في نشوةٍ نحوَ صَخبِ العاصمة ، إمّا دارسًا ، أو للعملِ ، أو للعلاجِ ، ثم شهدنا النّقلةَ الكُبرى ، التي هَشّمت صنم الماضي ، وسكبت رواسبه العالقة في أدمغتنا ، عندما هَانَ على ابن الطِّين والشّقاء قراريطه ومواشيه ، فَباعَها ولملمَ رُفَات أجداده في منديلٍ محلاوي ، وقَطعَ حبله السُّري ، وخرجَ هَائِما على وجههِ في حواريِ مصر ، مسحورا برغيفِ عيش القمح وأقراص الطعمية والصابون المعطر ،فَلانَ جسده الخشن، وتخلى لسانه الرِّيفي القُحّ عن لكنتهِ ، وأبدلها بكلامِ أهل البندر اللّين، وعيشتهم المترفة.
جلستُ ذَاتَ مرةٍ على مصطبةِ صديقٍ ، أحتسي شاي العصاري ، مَرّ من أمامنا صبية وجوههم متفتحة كنوّار عَبّاد الشّمس ، تَلُوحُ عليهم مخايلَ النعمةِ والجَمال ، هَمزتُ جَنبَ صاحبي استطلع هويةَ الغُرَباء ، ابتسمَ ابتسامةً خبيثة، دَسّ بوزه في كوبِ الشّاي ، قائلا: أهل مصر الجُدد يا محترم ..
عندها ، أخذتُ رشفةً طويلةً من الشّايِ ، وقلتُ بصوتٍ مسموع: والله عمار يا مصر ..