القاهرة 18 يونيو 2020 الساعة 10:43 ص
بقلم : د. حسين عبد البصير - مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية
ثمة شعور بالرهبة واحساس بالجلال والعظمة ينتابانك وأنت تقترب من تانيس. فتحس عندما تلوح معالم تانيس من بعيد أنك تدخل إلى محراب التاريخ، وأنك سوف تشاهد آثار مدينة كتب لها الخلود، وأنك سوف تعيش بين رحاب وجنبات التاريخ، وتنفصل تمامًا عن أحداث ووقائع الحياة اليومية المعيشة في مصر المعاصرة.
وتعد تانيس- أو صان الحجر- الموقع الأثري الأكثر أهمية في شمال شرق الدلتا، وعاصمة الإقليم التاسع عشر من أقاليم مصر السفلى في العصر المتأخر (747 -332 ق.م.)، وتقع في مركز الحسينية في محافظة الشرقية، وتبعد عن مدينة القاهرة حوالي مائتي وخمسين كيلو مترًا. وذكرت في النصوص المصرية القديمة باسم "جعنت" وتعني "المدينة التي بُنيت في الأرض الخلاء"، كما ورد ذكرها في التوراة باسم "صوعن"، أما اسم "تانيس" فقد أطلقه عليها الإغريق نسبة إلى الفرع التانيسي، أحد أفرع نهر النيل السبعة القديمة، بينما أطلق عليها العرب اسم "صان" تحريفًا عن الأصل المصري القديم، ونظرًا لكثرة الأحجار بها أضافوا إليها الحجر، فأصبح يطلق عليها اسم "صان الحجر" إلى الآن.
وتعتبر تانيس من أهم المواقع الأثرية في الأرض المصرية. وكانت عاصمة للاقليم التاسع عشر من أقاليم مصر السفلى، وإحدى مدن مصر القديمة الرئيسة، وإحدى عواصم مصر المهمة في دلتا النيل المصرية. وبرزت أهمية تانيس مع نهاية عصر الدولة الحديثة وبداية عصر الانتقال الثالث؛ نظرًا لاتخاذها عاصمة لمصر في عصر الأسرتين الحادية والثانية والعشرين المضمحلتين سياسيًا والغنيتين أثاريًا وتاريخيًا.
وأجرى الحفائر بها أثريون عظام أمثال أوجست مارييت بين الأعوام 1860-1880م، ووليام فلندرز بترى بين الأعوام 1883-1886م، وبيير مونتييه بين الأعوام 1921-1951م. وكان عام 1939م، لحظة عظيمة الأهمية في تاريخ مصر القديمة، حتى اكتشف الأثري الفرنسي "بيير مونتييه" مقابر جبانة عصر الانتقال الثالث الملكية الغنية، من الأسرتين الحادية والعشرين والثانية والعشرين (1040 -783 ق.م.) في تانيس. وتدفق عدد كبير من الآثار الساحرة من تلك المدينة التي كللها المجد والعظمة في مصر القديمة، من خلال حفائره التي قام بها بين الأعوام 1939-1946م. وكان هناك سبب كبير أثّر بالسلب على نتائج حفائره، ألا وهو نشوب الحرب العالمية الثانية (1945-1939م) في توقيت الاكتشاف، مما جعل الحدث السياسي بتبعاته الحربية يصم الآذان عن اكتشافات تانيس المذهلة، وجعل اكتشافاته المهمة لا تحظي بمكانتها الإعلامية التي كانت تستحقها آنذاك.
ولم يدخل المكتشفون الفرنسيون المقبرة الأولى من مدخلها الأصلي، وإنما من السقف. وبُنيت حجرة الدفن من كتل من الحجر الجيري والجرانيت الوردي، وزُينت الجدران بنقوش من "كتاب الموتى" و"كتاب الليل"، وهما من الكتب الدينية المهمة في مصر القديمة. واحتوت المقبرة الدفنة الغنية التي تخص الملك أوسركون الثاني بكل كنوزها الفاتنة من الحلي الذهبية والتمائم والأواني الذهبية والفضية.
ودخل المكتشف المقبرة الثانية من السقف أيضًا، في يوم 17 مارس 1939م، الذي أطلق عليه اسم: "يوم العجائب المثيرة لألف ليلة وليلة". ومن خلال دخوله حجرة صغيرة ملونة، ثبت أنها تخص الملك بسوسنس الأول (1034 -981 ق.م.) - المقبرة رقم "3" في تانيس- وجد نفسه محاطًا بأكوام رأسية من الأثاث الجنائزي.
واحتوت المقبرة أيضًا على دفنة الملك شاشانق الثاني (895-؟ ق.م.) محاطًا بجسديّ الملكين سي آمون (948-968 ق.م.) وبسوسنس الثاني (940-945 ق.م.). ووصل إلى حجرة دفن الملك بسوسنس الأول التي لم تُمس، فوجد بها الأواني الكانوبية وأشكال الأوشابتي والأواني الذهبية والفضية والتابوت الذي أخذ من دفنة الملك مرنبتاح (1201-1212 ق.م.) - ابن الملك رمسيس الثاني- من مقبرته في وادي الملوك. وكانت الحجرة الأخرى التي على الجانب الآخر مخصصة في الأصل لدفن أم الملك بسوسنس الأول، الملكة موت نجمت، واحتوت الدفنة الغنية للملك آمون إم أوبت (974-984 ق.م.). وما تزال المفاجآت تذهل مونتييه وبعثته من الأثريين، فوجد حجرة أخرى احتوت تابوتًا فارغًا للقائد عنخ إف إن موت. ثم أكمل العمل في 13 فبراير 1946م، الأثرى الفرنسي ألكسندر ليزين في الدفنة التي لم تُمس لقائد عسكري آخر، هو "ونج باو إن جدت" وكانت قليلة الحلي والأثاث الجنائزي.
ومنذ ذلك الحين لفتت تانيس أنظار العالم بآثارها الرائعة والجميلة والكثيرة المستخرجة من مقابرها حتى أن هناك قاعة كاملة خُصصت لروائع تانيس بالمتحف المصري بالقاهرة لا تقل روعة وجمالاً بأي حال من الأحوال عن آثار مقبرة الفرعون الذهبي توت عنخ آمون المحفوظة بنفس المتحف. فمن بين تلك الآثار، يجد المرء العديد من التوابيت والمصنوعات الذهبية والحلى والمشغولات من اللازورد والأحجار الكريمة مثل الأقنعة الجنائزية الخاصة بعدد من ملوك تلك الفترة مثل القناع الذهبي الأشهر للملك بسوسنس الأول. فزيارة واحدة للمتحف المصري بالقاهرة أو لمدينة صان الحجر نفسها كفيلة بأن تجعل المرء يرجع بالزمن إلى الوراء آلاف السنين ليعيش بين مجد وكنوز مدينة تانيس الذهبية.
وما تزال الحفائر الأثرية في تانيس مستمرة وتثير الدهشة. فقد كشف الأثري الفرنسي فيليب بريسو منذ فترة موقع البحيرة المقدسة الخاصة بمعبد الإلهة موت (زوجة الإله آمون وأم الإله خونسو اللذين يشكلان مع الإله آمون ثالوث مدينة تانيس المماثل لثالوث مدينة طيبة "الأقصر الحالية"؛ مما جعل من تانيس بمثابة طيبة الشمالية) في حالة جيدة على مبعدة حوالي 12 م من سطح الأرض. وبلغت مساحة البحيرة 12 م عرضًا و15 م طولاً وحُددت بأحجار ملونة من الحجر الجيري. وهذه هي البحيرة الثانية التي تكتشف بتانيس بعد البحيرة المقدسة الخاصة بمعبد الإله آمون (المعبود الرئيس للمدينة) في عام 1928 واكتشفت في ما بعد مقابر الملوك بالقرب منه. فهل تخرج لنا حفائر المواسم القادمة مقابر الملكات بالقرب من المعبودة موت وفي رحاب معبدها، كما حدث مع الملوك والمعبود آمون ومعبده من قبل؟ نأمل ذلك حتى تعود تانيس وآثارها الرائعة إلى أذهان العالم أجمع مرة أخرى.