القاهرة 16 يونيو 2020 الساعة 10:51 ص
بقلم: د. حسين عبد البصير- مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية
سايس أو صا الحجر أو صالحجر هى مدينة ذات تاريخ عريق. وتقع في مركز بسيون في محافظة الغربية عند فرع رشيد، (حوالي مائة كم جنوب شرق الإسكندرية). وتقترب من ساحل البحر الأبيض المتوسط، وكانت في الماضي عبارة عن منطقة مستنقعات. وكانت المنطقة موجودة منذ العصر الحجري الحديث. وتطورت خلال عصر الأسرات الفرعونية.
وكانت تسمي في عهد الفراعنة "صاو"، وحرفها الإغريق بعد ذلك إلى "سايس، ثم سُميت في العصر الحديث صالحجر. وما يزال موقعها إلى الآن يحمل الاسم القديم، غير أنه من الواضح أنها قد هُدمت تمامًا. ووصلت مدينة سايس إلى أهميتها في المجال السياسي في الفترات المتأخرة من تاريخ مصر القديمة، حين أصبحت عاصمة مملكة كبيرة أسسها كبار حكام الليبو، وانبثقت منها الأسرتان الرابعة والعشرين والسادسة والعشرين اللتان خاضتا صراعا استمر من أجل توحيد مصر.
وكانت الإلهة نيت ربة هذه المدينة. وكانت تضع على رأسها تاج مصر السفلى الأحمر وتمسك بالقوس الذي كان من رموزها. وكان لمدينة سايس خلال الدولة الوسطى معبودة تسمى "نبت صاو" بمعنى "سيدة سايس". وكانت تلك المعبودة تمثل أحيانًا في صورة الربة نيت والتي كان لها معبد كبير في هذه المدينة. وفي عصر الدولة الحديثة، كانت الإلهة موت ربة من ضمن ربات سايس. وفي العصور المتأخرة، صارت الربة حتحور سيدة سايس. واستطاعت الإلهة نيت -أم الإله رع- أن تحتل مكانة الإله آمون كإلهة أولى خلال عصر الأسرة السادسة والعشرين الصاوية (664 - 526 ق.م). ونجح الملك بسماتيك الأول في إعطاء سايس رونقها؛ إذ حصلت على عناية كبيرة في عهده وفي عهد خلفائه حتى صارت ذات مركز مرموق. ووصف المؤرخ الإغريقي هيرودوت المعبد الكبير في سايس. ووصف المدينة بأنها كانت مركز التجارة بين اليونان ومصر. وكانت التبادل التجاري بين سايس واليونان ودول البحر المتوسط يتم عن طريق "أبوقير" اليوم، قبل الإسكندرية.
وتقع المنطقة الأثرية شمال القرية. وتمثل بقايا العاصمة الصاوية. وفي العصر الحديث، بدأت أعمال الحفائر في صالحجر عام 1850 ثم في عام 1901. وتم اكتشاف عدة تماثيل نُقلت إلى المتحف المصري بالقاهرة، منها تمثال لـ"واح أيب رع"، وتمثال آخر لـ"سماتاوى تف نخت". وتم نقل بعض التماثيل الصاوية إلى المتحف اليوناني-الروماني بالإسكندرية. وقام بأعمال حفر بالمنطقة الأثرية عدد من البعثات الألمانية والإنجليزية والسويدية.
ومنذ عام 1997، ترأس عالمة الآثار والأستاذة بجامعة درهم البريطانية الدكتورة بيني ويلسون البعثة الأثرية بمنطقة تل ربوة الأحجار في سايس القديمة. وتوصلت لعدد كبير من النتائج المهمة. وكان أهم الاكتشافات الأثرية العثور على مجموعة مجموعة من النقوش. كما تم التوصل إلى وصف لمدينة سايس. وقد وجدت البعثة ما يشبه المربع مساحته 700 متر في 780 مترا. وكان يحيط به جدار مرتفع يصل إلى عشرين مترا. وهذا يمكن أن يكون قلعة أو حصن كان في هذه المدينة. كما وجدت البعثة أيضًا حفرة تعتبر موقعًا لتجميع مياه الصرف.
وعثرت البعثة على ركام من الحجر الصوان والخزف والعظام، مما مكنها من الحصول علي العديد من المعلومات. ومن بين الركام، وجدت كتلة سوداء، وهي كتلة من عظام الأسماك تعود إلى أربعة آلاف سنة ق.م.؛ مما يؤكد على أن أهل المكان قد احترفوا مهنة الصيد، واستخدموا في تربية الأسماك أحواضًا من الطين، والتي كانت مخصصة لصيد القراميط. ومن بين الآثار التي حصلت عليها البعثة رمح كان يُستخدم في صيد الأسماك. وقد عاش بالمنطقة الجنود والزراع الذين كانوا يقومون على خدمة الجيش. ويبدو أن أغلب سكان هذا الموقع كانوا ينتمون إلى الطبقة الفقيرة. وهذا ما تم التوصل إليه عن طريق دراسة طرق ووسائل الدفن. وعلى الرغم من كونها منطقة انتشرت بها العشوائيات، فإنها تميزت بالتنوع الطبقي؛ وذلك من واقع التنقيب عبر طبقات الأرض الأولى. ومن بين الاكتشافات التي عُثر عليها في مدينة سايس، معبد الربة نيت في الجنوب. وقد أشارت عدة مصادر إلى وجوده، ولكن البعثة لم تتوصل إلي مكانه بالتحديد، إذ ربما يكون تحت طبقات من الأرض. كما عثرت البعثة على مجموعة من تماثيل الأوشابتي. وهذا قد يكون دليلا على وجود مقبرة ملكية في هذا الموقع.
وتعتبر سايس أول عاصمة لمصر في الغرب، وتعتبر مثالاً مبكرًا للإسكندرية التي أيضًا تعتبر من العواصم التي تقع في غرب الدلتا؛ فغالبًا كانت عاصمة البلاد في شرق الدلتا؛ وذلك لحرص الملوك على العلاقات مع بلاد الشرق الأدنى القديم مثل سوريا وفلسطين. واعتبرت سايس مدينة مستقلة ذاتيًا. وتغير المشهد التاريخي على مدار ست آلاف سنة بتغير السكان. ويعود ذلك إلى فيضان النيل، حيث حدثت ترسبات طينية. وخلف الفيضان طبقة تزيد عن 0.4 متر. وهي طبقة قد تبدو صغيرة. ولكن بمرور السنين قد وصل تراكم الطمي إلى عدة أمتار، مما أثر على مجرى النهر والأرض من حوله. فبعد مرور آلاف الأعوام من تجمع الطمي، تغيرت المنطقة من الناحية الجيولوجية، فانخفضت التلال التي كانت موجودة. كما تم غمر الأودية بالكامل، بالإضافة إلى الركام المتناثر المتخلف، أو بمعنى آخر زادت الرقعة المزروعة. وهذا يشير إلى بداية زيادة النمو الاقتصادي مما شجع على أن تكون حاضرة من حواضر مصر. وأقيمت مدينة سايس في منطقة نائية؛ إذ لا يوجد حولها، وفي حدود دائرة قطرها 15 مترا، أية مواقع أثرية حتى كفر الشيخ.
ومن بين أوجه التقارب بين مدينة الإسكندرية ومدينة سايس، التشابه في مواد البناء والأحجار المستخدمة في نحت التماثيل. كما أن بعض الأحجار تم جلبه للإسكندرية من سايس؛ فقد كانت هذه المدينة همزة الوصل بين الوجه القبلي والبحري عبر نهر النيل. وربما كان بقصر كليوباترا الغارق بعض الأحجار من سايس. وتم جلب تابوتها من سايس. كما كان هناك بعض الأبراج الشاهقة والمنارات في الإسكندرية، ووُجد أيضًا شبيه لها في سايس. وكانت بغرض التواصل مع المدن المصرية وإرسال إشارات ورسائل بالضوء. وتتشابه المدينتين في أنه في الإسكندرية عُبدت الإلهة ايزيس، أما في مدينة سايس فقد عُبدت الإلهة نيت. كما أن هناك العديد من التماثيل التي صُنعت في مدينة سايس، ثم ظهرت في الإسكندرية، بالإضافة إلى ذلك التشابه الذي يصل إلى التطابق بين أشكال التماثيل. وترجح الدكتورة ولسن أن مكان حجر رشيد الحقيقي هو قرية صالحجر الحالية، وليس مدينة رشيد؛ إذ تم نقل الحجر عبر النيل إلى رشيد حيث عُثر عليه هناك، بناءً على أن آثار صالحجر تم نقلها إلى رشيد وفوة عبر المراكب بالليل.
لقد اتخذ الملوك الصاويون من مدينة سايس القديمة عاصمة الأسرة السادسة والعشرين الصاوية في الفترة من عام 664-526 قبل الميلاد حتى صارت صالحجر تمتلك تاريخًا عظيمًا، وصار معظم المتاحف في العالم تضم آثارًا من سايس عاصمة مصر في عصر الأسرة السادسة والعشرين.