القاهرة 09 يونيو 2020 الساعة 09:58 ص
كتب: عاطف محمد عبد المجيد
ضمن مشروع "ما" الذي يصدر عن الهيئة العامة للكتاب، ويسعى لاستكتاب كبار المتخصصين في مجالاتهم من أجل إصدار مجموعة من الكتابات المبسطة التي تلقي كل منها ضوءًا على فرع من فروع العلم والمعرفة والفنون والإبداع، على حد قول د. هيثم الحاج علي، يتساءل الشاعر والمترجم رفعت سلام في كتابه "ما الشعر" قائلًا: هل هناك مفهوم محدد للشعر؟ أم أنه مفهوم يتغير بتغير الثقافة والكتابة الشعرية، لنصبح إزاء " مفاهيم" متعددة، يعبر كل منها عن مرحلة معينة في تطور الإبداع الشعري؟ هنا يطرح سلام أسئلة صعبة تستدعي إعادة النظر في الإبداع الشعري والمذاهب النقدية لدينا، ولدى ثقافات أخرى خاصة الأوروبية المتماسة دائمًا مع الثقافة المصرية والعربية. سلام يرى هذا عبارة عن رحلة طويلة وشاقة، لكنها تستحق المحاولة ولا تخلو من المتعة، فمن دون هذه الرحلة في الزمن والتاريخ والشعر، لن نصل إلى ما نريد.
يبدأ سلام "ما الشعر" متحدثًا عن الشعر في العصور القديمة، متسائلًا: من أين تبدأ هذه العصور؟ وأين؟ وهل هناك تاريخ محدد للبداية؟ أم أنه مفتوح في ما وراء الزمن والتاريخ على المجهول الذي لم يُكتشف بعد؟ منتهيًا إلى رؤية أنه ليس هناك تحديد نهائي وقاطع للبداية سوى ما تبقى من آثار ثقافية للقدماء، وهي لا تمثل بداية مطلقة، لأن احتمالات اكتشاف آثار أقدم منها قائمة وواردة، وعلماء الآثار لا يكفون عن التنقيب. هنا يذكر سلام أن الآثار الثقافية الباقية لما قبل التاريخ موجودة في الحضارة الفرعونية في الأشعار، التعاليم، القصص، التماثيل، المعابد وغيرها، وفي الحضارة البابلية في ملحمة جلجامش، ولدى الأوروبيين، خاصة الإغريق، في ملحمتيْ الإلياذة والأوديسة.
فجر الضمير
في "ما الشعر" يتحدث سلام عن الشعر اليوناني، عن هوميرس، عن أرسطو، وعن الشعر اللاتيني، كما يكتب عن ?رچيل والإنيادة، عن هوراس، عن الشعر الهيروغليفي، وعن الشعر العربي ومرحلة المعلقات. وحين يتحدث سلام عن الشعر المصري القديم المكتوب بالهيروغليفية يذكر أنه كان مزدهرًا آنذاك، وفي عصر الدولة القديمة كان هناك الكثير من الأعمال الأدبية المكتوبة، إذ قاومت لفائف البردى والمسلات وغيرها الزمن والفناء. هنا أيضًا يرى سلام أن ما تبقى من التراث الأدبي، خاصة الشعري، لقدماء المصريين يكشف عن ثراء الحياة الثقافية والأدبية عامة، وعن بلوغ الأدب المصري ذُرًى رفيعة من الوعي والبصيرة والشعرية، حتى أن عالم المصريات الشهير سير جيمس هنري اعتبره فجر الضمير بالنسبة للإنسانية كلها. ويُرجع سلام هذا إلى أن التراث الثقافي الفرعوني الباقي يضم الكثير من النصوص الشعرية المختلفة والتعاليم التربوية والخرافات الأسطورية. ويورد هنا إحدى قصائد الحب والغزل تعود إلى عصر الدولة الفرعونية الحديثة:
" لا تتركني
فقلبي يتوقف
لمجرد التفكير في بُعدك
ومذاق الكعك الشهي
كالملح في فمي
كطعم المُر
إنك أنت الذي يُحييني..."
عصر النهضة
ومتحدثًا عن الشعر العربي يكتب سلام قائلًا إذا كان أغلب الباحثين يعتقدون أن أعمال هوميروس تم تدوينها في القرن السادس قبل الميلاد بعد تداولها شفاهة على مدى قرنين سابقين، فإن أغلب النقاد والباحثين العرب القدامى والمحدثين يعتقدون أن الشعر الجاهلي لا يزيد عمره عن مائتي عام قبل الإسلام.أما تبلور المرحلة الجاهلية شعريًّا فيتمثل في شعراء المعلقات السبع.كما يتحدث سلام عن الشعراء الصعاليك وهم الوجه المقابل لشعراء المعلقات المشهورين المنتمين إلى قبائل كبرى، وهم مطاريد الزمن الجاهلي الذين نفاهم المجتمع لا إلى الهامش، وإنما إلى خارجه، بلا أي اعتبار.كما لا يفوت سلام هنا أن يتحدث عن مفهوم الشعر في تراثنا النقدي قائلًا إن الغالبية العظمى من النقاد العرب يعتبرون عصر المعلقات أزهى عصور الشعر العربي، والمرجع الأول له، الذي وضع أساس وقواعد الكتابة الشعرية التالية. أما حين يتحدث سلام عن عصر النهضة الأوروبي فيقول إنه فيما كانت المجتمعات العربية تغط في نوم عميق، وكان الأدب يشهد غروبًا طويل الأمد، انبثقت النهضة الأوروبية، ويكمن الأساس الفكري للنهضة في التصور الخاص للنزعة الإنسانية، المستمدة من الحضارة الرومانية، وإعادة اكتشاف الفلسفة الكلاسيكية اليونانية، من قبيل فلسفة بروتاجوراس الذي قال إن الإنسان هو معيار كل شيء.وقد تجلى التفكير الجديد في الفن والعمارة والسياسة والعلم والأدب على حد قول سلام.
في "ما الشعر" يكتب سلام عن عصر التنوير، حيث يقول إن البلدان العربية كانت لا تزال ترتع في ظلماتها الطويلة العميقة حين أفضى عصر النهضة الأوروبي إلى عصر التنوير، ونتيجة لمنجزات عصر النهضة ظهر عصر التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر كحركة فكرية وفلسفية هيمنت على عالم الأفكار في أوروبا، وقد شمل التنوير مجالات فكرية تركزت حول العقل باعتباره مصدر السلطة والشرعية في اتجاه المثُل العليا: الحرية، التقدم، التسامح، الأخوة، وفصل الدين عن الدولة. سلام يقول، متحدثًا عن عصر الظلمات العربي، ربما كان الشعر هو ما تلقّى ضربة قاصمة في عصر الظلمات العربي، فقد ماتت الروح الشعرية الإبداعية وتحول الشعر إلى نظم ورصف للكلمات على سبيل التسلية أو المديح طلبًا للعطاء، وانتشرت ألعاب الألغاز اللغوية، أو الصياغة التي تسمح بقراءة البيت الشعري من اليمين أو اليسار دون اختلاف في المعنى:
"مودته تدوم لكل هول وهل كل مودته تدوم".
غيبوبة أدبية
بعد ذلك يقول سلام لقد مرت أربعة قرون كاملة من الغيبوبة الأدبية، خاصة الشعرية، قبل أن يظهر محمود سامي البارودي الذي قفز إلى الوراء قفزة هائلة متخطيًا عصر الظلمات العربي، وصولًا إلى فترة ازدهار الشعر العربي في العصر العباسي، متمثلًا شعراءه الكبار، ولغتهم وصورهم الشعرية، مستعيدًا ألق القصيدة العربية. كما يتحدث عن الحركات الشعرية الأوروبية ذاكرًا منها الحركة الرومانتيكية وهي حركة فنية أدبية ثقافية ظهرت في أوروبا في نهاية القرن الثامن عشر، ومنها الحركة الرمزية، حيث كان النزوع الطبيعي لرؤية الحياة بلا أوهام، والوقوف على أبعادها الأكثر إيلامًا وجهامة، يتبدى بصورة مكثفة في شعر بودلير. كما يتحدث عن السيريالية وهي حركة ثقافية انطلقت في فرنسا وبلجيكا، ثم بقية دول أوروبا في عشرينيات القرن العشرين وتجلت أعمالها في الأدب والفن التشكيلي. وتمثل الحركة رد فعل ضد "العقلانية" الزائدة التي قادت الثقافة والسياسة الأوروبية في الماضي وقد امتدت السيريالية إلى السينما والمسرح والموسيقى، بعد الأدب والفنون التشكيلية، فيما امتدت خارج فرنسا، لتتشكل مجموعات سيريالية في بروكسل ولندن وغيرها، لتصبح السيريالية ظاهرة أدبية وفنية عالمية.
في "ما الشعر" يكتب سلام عن الحركات الشعرية العربية كذلك، بادئًا بتيار الإحياء ثم جماعة الديوان فجماعة أبوللو عارجًا إلى حركة الشعر الحر، وقصيدة النثر العربية، وشعراء السبعينيات. ومتحدثًا عن حركة الإحياء يقول إنها تجربة شعرية متعددة الأبعاد، لا ينتبه إلى تعدد أبعادها الكثير من النقاد، ويكتفون بالنظر إلى بعدها التقليدي، الذي فرضه التاريخ على شوقي، لاستعادة القصيدة العربية من ظلمات العصر الوسيط.
وهكذا تجول بنا الشاعر رفعت سلام من خلال كتابه "ما الشعر" في كواكب ومجرات الشعرية العالمية، مسلطًا الأضواء على أهم مفاهيم الشعر وأبرز حركاته وبداياته وأجناسه المختلفة، عبر تناول مبسط ولغة أبعد ما تكون عن المعقدة.