القاهرة 02 يونيو 2020 الساعة 11:56 ص
بقلم: حاتم عبد الهادى السيد
يحيلنا الروائى إيهاب الوردانى فى مجموعته القصصية "ثمة حارس يفزعه الوقت" –منذ البداية- إلى مروج الذات والعالم، عبر فضاءاته الشاسعة، التى تتسع للكون وما بعدياته، حيث يزعق طائر النور لديه، ليحيلنا إلى ذواتنا الكونية عبر مرافيء لغته الصادحة فى الروح، يعبر بنا ذاته المتصوفة، الشاعرة -عبر عتباته النصيّة- ليطلعنا إلى خبيئات المجتمع، مروجه، ذواتنا المهترئة، وتخييلاته المتبدّاة.
إنه يتغيّا الوجود الإنسانى، كحارس يفزعه الزمان، الوقت، المكان، عبر عربة الخلود الكونية، كى يعرّج بنا عبر تطوافه إلى مساحات فى الروح أكثر إشراقاً وبهجة وفضاءات، فنراه يتغيّا عالماً لا يجىء، فنصدح معه عبر بركة الوقت، ومرافىء الوجود السيموطيقى، للبهاء المثيولوجى الممتد، الجميل، والسامق، والحالم أيضاً.
وفى البداية نراه يقدم ذاته على واحة ربوع الوطن، ببيت الشاعر العربى:
بلادى وإن جارت علي عزيزة وأهلى وإن ضنّوا علىّ كرام
كما نلمح الغربة والوحدة في قصته "لماذا أنا؟" ثم تليها قصة "تهيؤ" وكأنها متتالية قصصية لسارد يبوح بما يعترى الواقع الذى يعيشه، واقعنا، واقع العالم، فهو يتمثل الموروث الدينى لقصة يوسف وزليخا.. "غّلقت الأبواب واستعدت"، فوجدها قد غلّقت دونه، دخل وأراد، فرآها سيدة الرمل والحجارة، وتبدو الإزاحات واضحة وجلية، حيث إدهاشيات تحويل القصّ الجسدى للقاء حبيبين ، الى مثيولوجيا الحرب ، الدبابات التى هدمت منزله ، ربما بفعل الحرب المتخيلة، حيث طيور الأبابيل ترميه بحجارة من سجيل عبر توهماته وسرده الباذخ الدافق.
إنها أسلوبية القص التى يحكم عفق أوارها، ويقبض على جمرها اللغوى،المشاكس، والزاعق في الروح، وعبر الإدهاشية والميثولوجيا، والمفارقة،يحيلنا إلى الذات المنكسرة، الغريبة، والوحيدة، التى تريد الفعل –كما أعلن في الفاتحة- لكنها لا تفعل لأنها عاجزة عن الفعل كمجتمعاتنا الواهنة الضعيفة، والمستبدة كذلك، يقول: "افعل، لا فعل يجدى، آثم إذا استكنت، لاحول لى، ما استحق يولد من عاش لنفسه، ورضى بهمه، أعلم، عش إذن ولاعزاء فيك"، يا الله، وقتى.. معتم بالوجوه المنهوكة، قلبى... مثخن بالتاريخ والواقع، عمرى المشوش دائما ملكت يداى، مثلكم أنا، أجمع شموسى وأخبئها للقادمين، علّ وعسى". (المجموعة، ص: 3 ).
وفى قصته: "فيما بعد" نرى روعة السرد وتجلياته التصويرية الباذخة، للصحراء التى شبّهها بأنثى تتحرر من قيودها، تمد ساقيها للحياة، لكنها ما تلبث أن تلملم حاجياتها الخاصة، يقول: (والشمس تنفض عن كاهلها خدرها... تتنبه الرملات للقادم، تلمّ ساقيها، وتعدل في هيئتها، لتتبدّى مثل فرس أوجعها صخب الليل وضجيجه ،ورعد على غير ما توقع ودوامات الريح الثقيلة فتفرد بدنها للنور وتحمحم –سادرة- للتأهب. وفيما بعد، ترتفع جدران طينية، بلا عرش للسموات، كأنها أذرع للأرض تتضرع، أو أنها شواهد قبور لفعل الليل وعلى البعد -حولها- بعض نباتات لفروع سقيمة، مغبرةالورقات، وحفر كثيرة كأن الأرض هنا بقبقت، أو تفجرت. وفيما بعد،تجلجل ضحكة تيسير علوانى كأنها آتية من جب عميق، فوق رياح الصدى. يقول: كل ما تم صنعه من أحدث الأسلحة والقنابل يجربوه هنا، والناس كأنما... مازالت ضحكته تجلجل من هول الرؤية، والصورة انقطعت، ودخان كثيف غشى الشاشة، والصوت يقول: كأنما هم يعيشون الحالة من زمان.. وفيما بعد.....) الرواية ص: 10.
إنه يصور لنا واقعنا، لقطة من الحياة مرت، يسجلها بعدسته، كما سجلها تيسير علوانى، ودفع ثمن فعلته، حيث تم تكميمه، وكأنه هو يتمثله ذاته، فهو مكمم كذلك، لا يستطيع البوح، أو الصراخ، إلا من خلال ترميز/ وإشاريات مختبئة كذلك.
إنه المعادل الرمزى، ينسحب على مجتمعاتنا العربية -كذلك- التى عبثت بالأمن والهدوء، وكأنها متوالية سادرة بمنمنمات، تنتقد الواقع –عن بعد– تخاف أن تواجه، تهرب، تتحول إلى إشارية ناقدة من بعيد، ولعمرى وإن اتفقنا أو اختلفنا مع المزاجية العامة السياسية؛ لكننا هنا ننتقد ما هو فنى/ مكتوب – أقول: هذه تعبيرية رشيقة لسرد هارمونى متسلسل رائع، يجيد سبك معناه، وبناء معمارية قصصه، التى تمثل رمزية فريدة/ حالمة، مؤثرة، تخش إلى الروح لتعبأ الوجدان، وتضفى على العالم/ القارئ، بهجة للتواصل، وكأنه في قلب الحدث، يصنعه، أو عليه أن يتخيل الأحداث، التى لم يقلها بعد، وقد قالها خلف ظاهر النص الإدهاشى الباذخ والسامق والشاهق أيضاً.
كما لا يظل الراوى العليم/ السارد هنا سادراً في تخييلاته، وترميزاته، فنراه يذهب إلى قاع المجتمع المصرى، الحياتى، المعيش، عبر قصة "بركان"، وغيرها.. فنراه يسرد لنا حياة العامة من المصريين: من العاملة إلى الموظف حتى درجة مدير في مصلحة حكومية من أصحاب الطبقة الفقيرة، وحيث الأسرة التى لا يكفى دخلها الشهرى لسد احتياجات الأولاد، ومصاريف الحياة اليومية البسيطة. ومع أن الأم تعمل، والأب كذلك إلا أنه لا يجد جنيهاً لزوجته لتركب سيارة لتذهب إلى عملها، وهو ما يعكس حالة العوز المجتمعية لشريحة الفقراء من الموظفين، وحياة الأسر المصرية هناك.
كما يحيلنا الكاتب عبر الراوى العليم/ السارد، لمعنى برصد حالات، ومواقف حياتية، ومجتمعية، وتخييلية إلى "الإبيجراما" – القصة القصيرة جداً، وكأنه يهرب من تفاصيل السرد إلى التجريد، والرمز عبر الإحالات والانزياحات، والصور الإحالية ليحيلنا إلى مقصدياته التى تظهر في الخلفية: الصورة والظل/ خلف ظاهر النص، (ديوان القصص) كما ذكر على الغلاف، وكأنه ديوان للحياة المعاصرة، ذاكرة مصر التسجيلية عبر منمنات السرد وإحالاته الإدهاشية، الحزينة، المريرة، والمبهجة فقط، كما في قصة "جميلة".
وتتبدى الإبيجراما في قصصه: "روحان" ، وغيرها ، والتى قسمها إلى أجزاء كذلك، إلا أن قصته "موت" قد كشفت عن الجانب المخبوء للذات، لذواتنا، لعالمنا العربى المغتصب، لحياتنا التى دنسها الأمريكان والمستعمرون في: العراق وسوريا وليبيا، وفى كل مكان من الخارطة العربية، ونحن نتفرج، نمتص حلوقنا المالحة المقهورة، كأننا نتلذذ بمشهدية الاغتصاب.. اغتصاب الرمزية للبراءة للأنثى العذراء، التى يفتضها الجنود جهاراً نهاراً، لعروبتنا الضالة في المنافى، لإنسانيتنا وكرامتنا المهدرة تحت أحذية العسكر الغاصبين المحتلين، أو الطغاة المستبدين. إنها مدلولات كثيرة، يحيلنا إليها السرد لنتخيل كقراء، ولنكمل نحن باقى فصول الحكاية، كجمهور أدبى، عربى، كشعوب مستلبة، تستمرأ الذل والمهانة، ولا تستطيع أن تفعل شيئاً، وكأن الحياة تجمدت، والنخوة انهارت على خارطة العرب الصماء، البكماء، التى يحكمها العجز والهوان.
إن متتاليات ايهاب الوردانى تكشف لنا خبيئة العالم، المجتمع، الذات، عبر مسيرة الحياة، تضعنا أمام الأحداث والمواقف، وأمام أنفسنا. تضع العربة أمام الحصان لتقول: هل من فارس جديد، هل من إنسان عربى ينطق، يصيح، يقف في وجه الطاغوت، بعد أن ضاعت الإنسانية مع البراءة المستباحة؟!
إن إيهاب الوردانى، كاتب عروبى، قومى، حالم.. يغوص في قضايانا المحلية ، العربية، ليحيلنا إلى ذواتنا التى تكلست بفعل فاعل، كنا فاعلين، وأصبحنا مفعولا بنا بفعل فاعل، بفعل أنفسنا، عجزنا، تشتتنا، تشظينا عبر منافى العالم ، هنا على أنفسنا فهنا على الناس، وفتحنا جسد عروبتنا لمن يريد اشتهاء.
إنها ديوان قصص الحياة، تسجيل لواقع معاش، صور لمتخيلات، حقائق دامية، رموز لمعان لم تكتمل، وواقع مرير، ينضح بالمرار، لكن ثمة ضوء في نهاية النفق المظلم الرهيب، المهيب، الخانع، الانهزامى، المتراكب، الواهن، والمترهل، والمتأهب للفعل، لكنه ينتهي بهزائم شتى، وأهوال صغيرة/ كبيرة، دائمة، مستترة، خلف البياض، وخلف سدم العالم الممتدة، عبر العالم، الكون، الحياة.