القاهرة 26 مايو 2020 الساعة 12:55 م
عرض وتقديم: بهية حاتم
من الشعر الفيتنامى المعاصر:
المؤلف: ماى فان فان
الكتاب: حيث تتسع السماء
ترجمة: رائد أنيس الجشى
الناشر: دار الفراشة للنشر، الكويت،2019م
ولد الشاعر الفيتنامى المعاصر: "ماى فان فان" فى منطقة "ننينا بينا"، فى دلتا البحر الأحمر، شمال فيتنام، وهو يقطن حالياً فى مدينة "هاى فونج"،وكان أن أصدر (22) مجموعة شعرية ترجمت إلى اللغات المختلفة، كما ترجم كثير من نصوصه لأكثر من عشرين لغة مختلفة ونال العديد من الجوائز فى فيتنام. وتحتوى نصوصه على: "تراث البيت الفيتنامى المضياف"، وثقافته التأملية، فى اكتساب الطاقة الإيجابية، والتكامل نحو الإشراق، يقول: "الشعر روحى، وروحى متصلة بكل شىء". كما يميل شعره إلى التصوف والتوحد مع الذات والآخر، إلا أن الآخر بمفهومه لا يعنى المحبوب أو الناس، بل يعنى الآلهة، والخلق بأكمله. ولقد وجدنا هذا الفكر لدى "بوذا" إلى جانب فلسفة "الزن والين/ يانق"، حيث الاتحاد مع الطبيعة،بكل ما فيها، وتحديداً، بكل شخوصها، فهو الإنسان والحيوان، والنبات، والجماد، بل كل جزء خاص بها.
انه الشاعر الذى يحتفى بالتجسد، "بالاتحاد والحلول"، وكأنه فيلسوف إيمانى، يؤمن كالفيتناميين بفكرتى: "التحول الجسدى والروحى"، وهو شاعر يجيد نظم القصائد القصيرة، الإبيجراما، والطويلة كذلك، وعبر مسيرته الشعرية، نراه يمزج بين الواقعى والسياسي والدينى، دون انزياح للدين والفلسفة، على حد قول المترجم، بل يوظف كل ذلك لتدعيم الحالة الشعرية والإنسانية. وهو ما حدا به أن يقول عن الشعر: إنه يعيد الجمال إلى فطرته، إنه الضوء الذى يبعد الظلمة، الماء البارد الذى يجعل الأرض خضراء، والعلاج الفعال لعلاج الروح من الفساد".
لقد قدم لنا المترجم الرائع "رائد أنيس الجشى"، أدباَ فيتنامياً مغايراً، نقله عن الوسيط الإنجليزى، وقابل المؤلف شخصياً، ليراجع معه الترجمة، لتقترب بأقصى ما يمكن إلى مقصديات الشاعر، عبر النقل العربى، وهو أقصى جهد يمكن أن يقدمه مترجم، للوصول إلى غائية الشعرية كما كتبها المؤلف فى أصلها الفيتنامى، وهو جهد كبير، يثمن للمترجم، ويميزه عن غيره، فهو ناقل أمين، ومترجم بارع، وشاعر وناقد، استطاع بمشروعه الفردى أن ينجز الكثير من الكتب المترجمة عالمياً –والذى يجعلنا بشكل شخصى- نطلب من دولته السامقة -أن يكون مشروعه، هو مشروع الدولة للترجمة، لتتفتح مدارك أجيالنا، وأمتنا العربية، على الآداب العالمية الإنسانية، لنرى موقع أقدامنا من آداب الأمم والشعوب، وأقول: إن غيرة انتابتنى لوجود مترجم من هذا النوع، وبحجم رائد أنيس الجشى، فحري بالدول والحكومات أن تدعم هذا السياق الإبداعى الشاهق للترجمة الرائدة والباذخة، والتى تدلل إلى ذوق المترجم الرفيع فى اختياراته الجميلة، عبر التنوع والاختلاف،لتقديم نماذج أدبية إنسانية كبرى، تستفيد من المنجز المابعد حداثى، لنعيد رتق شراع إبداعاتنا العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج، وتلك لعمرى مهمة قومية كبرى، وفرصة نادرة للأخذ بأسباب الإنسانية التى نتوسلها، لعالم عربى جديد، يستفيد من الآخر، يساوقه، يطاوله، يتباين عنه؛ لكننا يجب أن نعرف، نقرأ، نناجز الآخر لنضارعه، وربما نسبقه كذلك، وكيف لا؟ ومجدنا العربى الإسلامى قد أنار منارة العالم من قبل، وحري بنا أن نستعيد سطوة النور الساطعة لإبداعنا العربى الجميل.
إن "ماى فان فان" شاعر يحلم بعالم مثالى، إنسانى، يستخدم لغة الواقع ليسمو نحو الخيال، ويعيد إنتاجية الواقع، بالواقع ذاته، وتلك فرادة ميزته، ولن نستطيع كذلك أن نطلق على شعره أنه من "شعر الهايكو"، لأنه ينحو إلى الطبيعة، ويستخدم تقنياتها فى إنتاجية عالم يسع الفيتناميين، بعد الحروب والدمار والاستعمار الذى جثم على أرضها أعواماً ممتدة؛ لكنه شاعر، وكفى، يقف وحيداً ليريق الجمال بهدوء، على مرمر العالم؛ ليعيد إنتاجية الإنسان، والواقع الفيتنامى، من جديد. وعبر عنوانه اللافت: "حيث تتسع السماء" نرى العالم الكونى، بتشطياته وأهواله، آماله وآلامه، صوره وحكاياته، ماضيه وحاضره، أيديولجيته وميثيولوجياه، وعبر السماء التى تتسع للجميع فهناك الله الذى وسع كل شىء علماً، وأعطى ماى فان سراً شعرياً مقدساً، وقلماً نورانياً يضىء به السماء التى اتسعت، واحتوت الكون والعالم والحياة، يقول:
بهدوء أعبر الهالة فى عمق الماء
وأنظر إلى السماء بجناحين مبسوطين
أصعد إلى قمة شجرة حيث ينحنى منقار الطائر
ليطعم كل فرخ من فراخه رشفة من
الريح
صوت الحب المجروش فى الصدر
الغابة العارية والفاكهة الخضراء
قبة الغابة كثيفة الأوراق
الطفل المولود لتوه على الأرض
ذيل شرغوف مقطوع يسبح عبر النهر
يتعلم رفرفة جناحيه وينفث الريح فى أحشاء العش الدافىء
أوراق برعم الحبة تتحرر وتحلق بعيداً
يصّاعد البخار من ضفاف النهر. (الديوان ص:6).
إنه الشاعر الفطرى، المثيولوجى، السيموطيقى، يمزج التراث بالأسطورة بالدين، ويفلسف الواقع والفلسفة بطزاجة، وغرابة متبداة، وكأنه يعيد تصوير مشهدية خلق العالم والأشياء. فقد بدأ القصيدة بالأم وصغيرها، وصراخ الطفل فى برارى العالم، "حنان الأم ودهشة الصغير منذ نزوله من رحم الأم المتهادى الساكن، إلى الحياة الصاخبة".
ونلمح هنا "الشرغوف" وهو –كما يؤطر المترجم – : "كائن يفقس بيضه من البرمائيات كالضفدع، والشرغوف ليس المراد هنا، فهو يقطع ذيله عند بداية تحوله إلى ضفدع، ودلالتها فى المثيولوجية الفيتنامية: "التحول الجسدى والروحى".
إنه الشاعر الذى يحيل الشعر إلى مسروديات حكائية، وكأننا أمام قصة كبيرة للعالم، لفيتنام بلغتها وثقافتها المحلية، طرائق معيشتها، فلسفتها الجمالية والروحية، سيموطيقيتها المنداحة عبر اللغة السلسالة التى تتوشىب حمولات،وطاقات، وإشاريات، تحيلنا إلى المثيولوجيا فى فيتنام، إلى الإيمان عبر الفلسفة، الحلول والاتحاد عبر الشعر، والتحولات الميتافيزيقية والبيولوجية ، وربما التماهى، أو كما قال الشاعر العربى:
أنا فى أنا وأنى فى أنا نحن روحان حلا جسدا.
وعلى الرغم من معلومية رفض فكرة الحلول والاتحاد عند العرب، ومواجهة صاحبها بالكفر، فقد وجدنا لها عبوراً فى التراث الصوفى العربى والعالمى، باعتبارها فكرة فلسفية، وليست دينية لعبة سردية كبرى، تتماهى مع العالم،تجمع بين الواقع والمتخيل، بين الحلم والواقع، بين النور والعتمة، بين الثنائيات الكونية الكبرى، لتعيد فهم العالم، بعيداً عن أيديولوجيات الدين،وأطره الصارمة. لقد استطاع الشاعر والأديب الفيتنامى: "ماى يان يان" أن يعيد رتق الواقع من أجل الانسان، ويعبر بمثاليته إلى مابعد- بعديات الواقع،ليعيد إنتاجية الواقع ذاته عبر الفلسفة والاقتصاد والسياسة، وعبر المجتمع المحلى، الفيتنامى، بأطره، ومعتقداته، وقيمه الحياتية والاجتماعية والدينية ، بل وجدناه عبر ذاته يصرخ -ليطلع قارئه- إلى بدايات النور، الحقيقة،البرهان، فى عرفانية ممزوجة بالمثيولوجيا، التى تستشرف الذات، وتتوسل الحلم، لتجد طريقا إلى البوح عبر الحياة والكون والعالم، والواقع المثالى الذى يتغياه، يقول:
عند الفجر/ يجب أن تتحول بنفسك/ فاكهة/ أضواء نار/ ووعاء بين ويانغ من الماء/ أسحب الجسم شيئاً فشيئاً من قوقعته/ كزحف على ميقات الغسق (الديوان ص: 9).
والـ (ويانغ) هنا –كما يشير المترجم- هو رمز لاتحاد طاقتين متعاكستين،لدى الصينيين وفى الديانة الطاوية. إنها شعرية الواقع، الحقيقة عبر المثالى ، والمتخيل عبر الإنسانى والميثولوجى، يسبح بنا عبر غرائبية التصوي، واللغة الإشراقية الترميزية، والانزياحات الكثيرة، ليحيلنا إلى ذواتنا الفطرية الأولى عبر الكون، العالم، الحياة. وهو الشاعر الكونى الذى يذهب إلى الصلاة ليطهر العالم من أدرانه، الإنسان مما علق به من خطايا، عبر طاقة اللون الأبيض/ الأسود: النور والإشراق مقابل الظلام والعتمة والصورة والظلال مقابل الحقيقة والبرهان، والفعل والحركة مقابل السكون والعدم، يقول:
يد بيضاء، دم أسود، لسان أبيض، دموع سوداء، ظهر أبيض، حلزون أسود يزحف من شعر أبيض وعرق أسود/ السحر الأسود الملقى على كل شىء سينتهى..
دعنا نصلى لننقذ البشر فى هذا العالم. (الديوان ص: 13 ).
وعبر طقوس الغوتو –والتى قد تشابه فى التصور الذهنى ابتهالات الشيعة – من الركوع والانحناء الشديد، حد السجود أو الزحف لإظهار التقديس العظيم، نراه شاعراً إيمانيا، متصوفا، مثيولوجىاً يتمايل مع التنين المقدس،كعابد فى محراب الشعر، يغزل الواقع، بصورة أشبه بالسحر الذى يريد أن يتخلص منه، ليخلص العالم من الحية- (الشطان) عبر التراث اليهودى، أو أنه يسوع المطهّر، أو المهدى المنتظر. وباستقراء شعرية " قاموسه الشعرى اللغوى" نلمح إيمانية متبداة، ومثالية متغياة، وسرمدية وجود متخيل، بعيد،يتهادى على المجرة الكونية، ليعيد تشكيل العالم كل صباح ومساء؛ لذا لا غرو أن يحيلنا إلى القردة، البلابل، الأشجار، الجبال، الشمس، الريح، الحياة، القمر، الماء، النبات، الزهور، الطبيعة، ماوراءالأفق، الكون وما يحويه، والعالم السرمدى القابع هناك، خلف تلال النور، وعبر الصمت والسكون الممتد، والصخب الهادر للذات والعالم والوجود الإنسانى الكبير، يقول:
وحدها هالات أحلام
الإنسانية الطفلة
قادرة على الحركة
لكى تصبح طبيعة، بريئة وتشعر بالمساواة
أنا مصنوع من الصوف والورق والخشب. ( الديوان ص: 130).
كما ينهى ديوانه بقصائد التلاشى، القصائد القصيرة، الإبيجراما التى تفسر العالم، عبر التكثيف والتراكم والتراكب، وعبر الانزياحات، ليتحول العالم مع "مواء القطة" إلى نقطة بيضاء، وكأنه يريد فى النهاية أن يتركنا للبياض،للنور الساطع للإشراق الكبير، لموسيقا الحق والخير والجمال، عبر نور الشمس الساطعة، وظل الإله العظيم!!