القاهرة 14 مايو 2020 الساعة 03:02 م
فى أوقات الأزمات تطفو علي الأفق تساؤلات هامة ترتبط بالبناء الفوقي (الأفكار والإيديولوجيات)، و بالبناء التحتي (المنظومة الاقتصادية) وعلاقة ذلك بالحركة التاريخية، ومن أبرز التساؤلات التي تلح فى وقت تواجه فيه الدولة المصرية بمؤسساتها، ويصارع فيه العالم جائحة كورونا "كوفيد 19" وتداعياتها علي المجتمع؛ ما له علاقة بالبحث في تكوين شخصية الإنسان الذي هي محور الحراك المجتمعي ودوره من الأزمة، وما إذا كان هذا الإنسان سيكتفي فقط بالدور الذى تقوم به مؤسسات الدولة لمواجهة الأزمة -مكتفياً بموقع المتفرج- أم أن يكون مساهما ومشاركا غيره في تكوين حالة تشاركية في إدارة أمور الأزمة؟.
يسبق كل ذلك؛ تساؤل أكبر؛ ألا وهو :"هل التكوين المعرفي للمواطن المصري قادر علي مواجهة التحديات التي تواجها الدولة في ظل الأزمة الراهنة؟، أم كان لإنهيار منظومة القيم التي شهدها المجتمع المصري طوال العقود الماضية أثراً علي شخصيته وتكوينه المعرفي مما جعله يعزف عن المشاركة والتفاعل مع مجتمعه في أوقات الأزمات؟.
للإجابة عن تلك التساؤلات دعونا نبحث في سمات الشخصية المصرية، وكيف تشكلت طوال العقود الماضية، ولنبدأ بقوة الأفكار الليبرالية في مصر والتي انتشرت عبر المساهمات الفردية بشكل أكبر عما انتشرت به عبر المؤسسات السياسية والحزبي، بحكم الانقطاع الذي شهدته الحقبة الأولي بعد قيام ثورة 1952، والتي بانتهائها انتهت معها المؤسسات الدستورية والليبرالية التي أقامتها، ومن ثم بقي دور الأفراد هو الفارق الحقيقي الذي حافظ علي قوة الأفكار الليبرالية ونشرها من جيل إلي جيل وهو ما أشارت إليه الدكتورة إيمان العوضي في كتابها الموسوم "الفكر الليبرالي في مصر 1919 -1961"، حتي وقعنا في أثر التفسير الخرافي الغيبي للأحداث والوقائع بدلاً من التفسير الديني اللاهوتي بسبب سيطرة جماعات وحركات الإسلام السياسي علي المجال العام فى مصر تحديداً منذ منتصف حقبة السبعينات من القرن الماضى وحتي الآن؛ فهي مرحلة تتسم بسرعة التحولات وعمق التبدلات وتقلب الموازين، كذلك سيطرة الفكر التآمري بسبب غياب نظرية المعرفة التي تعتمد العلمي والموضوعي بعيداً عن تحيزات أو قناعات مسبقة.
انتشار هذا النمط من التفكير الذي يغيب عنه المستقبل وتنزعه الشعبوية لدي كثير من المفكرين الأيديولوجيين في مصر بشكل خاص كان من أسباب تأخر مركزيتها الثقافية والفكرية وبدء ظهور بدائل أخرى في العالم العربي تطرح مشاريع أكثر معرفية ومستقبلية، بحسب ما كان يراه المفكر هاني نسيرة، وهو ما كان له بالغ الأثر في تراجع دور النخب (السياسية، الاقتصادية، المجتمعية، الثقافية) عن المشاركة المجتمعية في أوقات الأزمات – أزمة انتشار فيروس كورونا نموذجاً-.
اقتصاديا؛ نجد أن تبني الدولة المصرية خلال فترة الثمانينيات نهجاً اقتصادياً يعتمد علي سياسات الانفتاح الاقتصادي أدى ظهور عناصر طفيلية شكلت في مجموعها تكوينه اجتماعية جاءت بمنظومة من القيم تعتمد في المقام الأول علي أنماط من الاستهلاك بعيدة كل البعد عن الاهتمام بالسلع الجوهرية التي يحتاجها المجتمع وهو ما خلق واقعاً اقتصادياً وسياسيا واجتماعيا عكس حقائق التركيب الاجتماعي في المجتمع المصري، كما عكس ولادة نخبة جديدة تحتل ومازالت مكانها علي قمة الهرم الاجتماعي المصري لا تقدم برامج اجتماعية تشاركيه في أوقات الأزمات، بل تفضل أن تنأى بنفسها عن ذلك في مقابل حماية مصالحها الاقتصادية!.
ثقافياً؛ بالنظر إلي وظيفة المثقف في المجتمع المصري، خاصة المثقف الحر غير السلطوي، والذي ينبغي عليه التعبير بصدق عن قضايا وهموم مجتمعه، وتحذير المجتمع من مخاطر الهيمنة الثقافية، فضلاً عن دعم الهوية الثقافية للجماهير من خلال التأكيد علي عناصر هذه الهوية في إنتاجه الفكري المقدم إلي الجمهور، كذلك العمل علي تماسك البناء الاجتماعي داخل المجتمع، وحفظ التراث القديم لهذا المجتمع، وتوحد الأمة بارتباط أفراده بمصير مشترك وغاية واحدة؛ نجد أن هناك خلل واضح في كل هذه الوظائف وهو ما برز جلياً في سلبية المثقف المصري، خاصة بشيوع التحلل في القيم بين المثقفين في ظل غياب التنظيمات الفكرية المستقلة وحلول "الشلل" للمصلحية الموقتة فهرب الفكر من النافذة وبالتالي عدم فهمهم لواقعنا الاجتماعي وهو ما تبرز أطروحاته التنظيرية البعيدة كل البعد عن واقعنا.
إعلامياً؛ تظهر تساؤلات أخري فيما يتعلق بالتنمية الثقافية والذاتية الثقافية، وأيضاً حول ما هو السبيل لمنع ظهور وانتشار أنواع من الثقافات غير المجدية والسطحية فى الصحافة والمضامين الإعلامية فى وسائل الإعلام، أو علي الأقل التقليل منها، وكيف يمكن تفادي أشكال السيطرة الثقافية التي تفسد تنوع الثقافات الوطنية وأصالتها والتي يمكن أن تشجعها وتساهم فيها وسائل الإعلام، وكلها تساؤلات مازالت تحتاج إلي دراسات تخدم أغراض التنمية من ناحية، وتسهم في تحسين أداء وسائل الإعلام من ناحية أخري، ودورها في إعادة بناء الشخصية المصرية وهو ما أكد عليه الباحث محمد عرفة فى رسالته لنيل درجة الماجستير تحت عنوان "دور الصحافة في التنمية السياسية".