القاهرة 05 مايو 2020 الساعة 01:45 م
كتبت : زينب محمد عبد الرحيم
تُعد الفوانيس من أكثر المظاهر التراثية المرتبطة بشهر رمضان المُبارك، فنجد أنّ تلك الظاهرة رسخت في وجدان المصريين منذ العصر الفاطمي وكان ذلك مرتبطًا بيوم رؤية هلال رمضان، حيث كان الخليفة الفاطمي ومعه العلماء والعارفون في الفلك والتقويم.. كانوا جميعهم يحملون الفوانيس المضيئة وذلك لرؤية هلال رمضان، وكان يُصاحب يوم الرؤية احتفال جموع الشعب بهذا الحدث لاستقبال الشهر المُبارك.
ويصف المُستشرق الإنجليزي إدوارد وليم لين، من القرن الثامن عشر مظاهر الاحتفال برؤية الهلال في القاهرة فيقول:
"في مساء ذلك اليوم يسير موكب المحتسب ومشايخ الحرف المتعددة ومعهم فرق موسيقية وعدد من الفقراء ويتخللهم فرق من الجنود من القلعة إلى مجلس القاضي ويتقدم حاملو المشاعل لينيروا الطريق وبعد رؤية الهلال يعودوا صائحين يا أمة خير الأنام.. الصيام الصيام".
فترتب على ذلك ارتباط شهر رمضان بالمصابيح المُضيئة المعروفة بالفوانيس. وكان الحرفيين قديمًا يدركون أهمية الفوانيس وشيوعها فكانوا يستعدون لهذه المناسبة قبلها بعدة أشهر، حتى يمكنهم إنتاج أكبر عدد من الفوانيس المصنوعة يدويًا.
ولم يرتبط الفانوس وحده باستقبال شهر رمضان، بل ارتبطت به الأغاني أيضًا، فكانت هناك أغنيات شعبية تُغنى في هذه المناسبة بل وأيضًا أغنيات ارتبطت بالفانوس نفسه مثل الأغنية الشعبية الزائعة "وحوي يا وحوي.. إياحا"
هذه الكلمات التي أصبحت أصيلة في الوجدان المصري، وقاومت كل التغيرات الزمانية وارتبطت بشكلٍ خاص بفانوس رمضان. فالمتأمل في تلك الأغنية التي سأورد كلماتها في هذه المقالة سيلاحظ أنّ أغنية وحوي يا وحوي مجهولة المؤلف، ولكن بكل تأكيد كان هناك من أبدع كلماتها ولكن مع مرور الزمن تجاهلنا المؤلف الأول وأصبحت ملكًا للجماعة الشعبية الحاضنة لذلك الموروث الشفاهي.
وسنلاحظ أيضًا أن كلماتها "وحوي.. إياحا" كلمات غير موجودة في اللغة العربية أو حتى في اللهجات المصرية الدارجة، ولكن هذه الكلمات أجمع العديد من الباحثين على أن أصلها مصري قديم وخاصةً القبطية اللهجة (الصعيدية) فنجد أن كلمة وحوي من أصل الكلمة المصرية القديمة واح بمعنى"استمر"
(أنظر المعجم الصغير في مفردات اللغة المصرية القديمة.. أحمد بدوي، هرمن كيس)
ويذكر جاردنر، عدة معانِ لكلمة واح بمعنى صبورًا أو احتمل
أما عن كلمة إيَّحَا /إيُّحَا تعني (القمر) وأصلها المصري القديم إعح، وأصبحت في اللهجة الصعيدية يوح / أوُّوح.
فنستنتج أنَّ معنى الأغنية هو: استمر أيها القمر للترحيب برؤية الهلال، ونستنتج أيضًا أنَّ مصدر تلك الكلمات التراث الشعبي (الفولكلور) الصعيدي في جنوب مصر.
الأغنية: وحوي وحوي إيوحا
بنت السلطان إيوحا
لابسه قفطان إيوحا
بشراريبه إيوحا
ياللا نجيبه إيوحا
بالأحم إيوحا
بالأخضر إيوحا
ونجد في أغنية حَالُّو يا حَالُّو رمضان كريم يا حَالُّو أنَّ كلمة حَالُّو أيضًا في القبطية اللهجة الصعيدية بمعنى شيخ/ عجوز وتُغنىّ تلك الأغنية من قِبل الأطفال ليذكروا كبار السن من الأجداد والأقارب والجيران بإعطائهم عيدية وهدايا رمضان.
الأغنية :
حالو يا حالو رمضان كريم يا حالو
الصايمين يا حالو بعد ما فطرم حلوا
فك الكيس وادينا بقشيش
لنروح ما نجيش ياحالو
وكما ذكرنا سابقًا أن فانوس رمضان كان يتم تصنيعه يدويًا على يد حرفيين يتوارثون تلك الحرفة من الآباء والأجداد. ونجد أهم الورش لصناعة الفوانيس تتركز في منطقة تحت الربع في باب الخلق بالقاهرة فتشتهر تلك المنطقة بإنتاج الفوانيس على كافة أشكالها. ويوجد عدة ورش بمنطقة الجيزة أيضًا. ومما لا شك فيه أنَّ شكل الفانوس تغير عبر الزمن.
وعند زيارتي لإحدى ورش الفوانيس (بالجيزة) وذلك قبل حلول شهر رمضان بعدة أسابيع ذكر لي الحرفي أسماء الفوانيس التي تُصنع يدويًا من الصاج وكانت على النحو التالي:
فنجد الفانوس أبو حجاب، شقة البطيخ، مربع مدور، فانوس أبو عرق، فانوس أبو حشوه، فانوس أبو نجمة، المرجيحة، فانوس مسدس عِدل، فانوس صاروخ، فانوس دبابة، طيارة، مركب، فانوس مقرطس/مبزبز كبير على شكل نجمة 12 ذراعا، أبو لوز، مقرنص، شمسية بدلاية.
ومن أشكال الفوانيس التي اندثرت منذ فترة طويلة: فانوس طار العالمة والشيخ علي.
ويستخدم الحرفي (صانع الفوانيس) عادة أدوات بدائية يدوية أهمها الصفيح وقصدير اللحام و أمامه موقد ليصهر عليه القصدير ويلحم به قطع الصاج المُكونه لأجزاء الفانوس، ولديه أيضًا مكبس يدوي للتخريم وطباعة الأشكال المتنوعة على الصاج وكل جزء من أجزاء الفانوس يصنع منفصلًا كالقبة والجسم والقاعدة، وذلك ليتمكن من إضافة الزجاج الملون والحليات الأخرى. وفي النهاية تتم عملية اللحام والدهان/ التلوين إلى مرحلة المراجعة على الفانوس بشكل كامل.
ويذكر الحرفي في نهاية الحديث أن هذه المهنة التراثية الموسمية تتعرض لخطر الاندثار في ظل هذه المواجهه الشرسة للتكنولوجيا الحديثة و أشكال الفوانيس التي تستورد من الخارج ويكتظ بها السوق وربما تكون أرخص سعرًا من الفانوس المصري اليدوي.
ولكن بطبيعة الحال، ليس صانع الفوانيس وحده من يُعاني تلك المعاناة، بل جميع الحرف اليدوية التقليدية تتعرض لهذه المواجهه غير العادلة مع التكنولوجيا الحديثة التي أطاحت بكل ما هو يدوي ليعتمد الإنسان على الآلة بشكل رئيسي. وعلى الرغم من ذلك لم يتمكن اليأس من الحرفيين المصريين المقاومين كل ظروف الحياة ويتمسكون بميراثهم الحرفي في مواجهة متطلبات السوق الحديثة.