القاهرة 05 مايو 2020 الساعة 01:24 م
كتب: صلاح صيام
ماذا يفعل العالم، المفكر، الأديب، الكاتب، الشاعر، الصحفي، الفنان في بيته؟.. هل يفعل ما يفعله الآخرون من عامة الناس في بيوتهم خلال أوقات الحظر وأيامه؟.. هذا السؤال هو الكاشف بين هذا وذاك، والذي طرحته "مصر المحروسة" على الأديب العربي العراقي والباحث المتخصص بأدب وثقافة الأطفال فاضل الكعبى وتركنا له هذه المساحة كاملة لنعيش معه أيام الحظر...
في يوم من أيام (الحظر )، طلبت مني أم البيت، أن أؤدي لها عملا ما هو بالأساس من بين أعمالها وواجباتها البيتية المعتادة كل يوم، قلت لها: لا وقت لديَّ لهذا العمل، فأنا منهمك بكتابة دراسة نقدية لا أريد ضياع الوقت من دون إنجازها هذه الأيام.. أم البيت (زوجتي) تذمّرت كثيراً وهي ترد عليَّ حتى في وقت الحظر لا تترك القراءة والكتابة لتتفرغ لنا بعض الوقت!!.. وواصلت تضيف: انظر إلى الرجال الأزواج جميعهم وجدوا أيام الحظر فرصة لمعاونة نسائهم بكل جدارة ومهارة، ووصل الأمر بالبعض منهم إلى إعطاء الزوجة إجازة مفتوحة تريحها من أعمال البيت حتى انتهاء الحظر، وراح هو يقوم بكل ما كانت تقوم به الزوجة من أعمال البيت التي كانت حكراً على المرأة ، فهذا يطبخ ، وهذا يخبز، وهذا يعد المائدة، وهذا يغسل الصحون، وهذا يمسح أرضية البيت ويرتّب أثاثه، وربما هذا يغيّر للأطفال حفاظاتهم، ويعد لهم الحليب، ويغسل ملابسهم، وهذا يفعل كذا وكذا. أما أنت فما زلت رهن القراءة والكتاب يا رجل ولا تغادر عوالم "اللابتوب" والمكتبة والكتاب. قلت لها: هذا هو عالمي ووظيفتي في الحياة، ولا أجيد غير ذلك من أعمال؛ لكنني معك شاطر جداً في عمل آخر لا أتهاون في أدائه لك بكل الحب والمودة كل يوم أو بين يوم وآخر، وتعرفين صولتي فيه!!.. ضحكت وأدارت وجهها باتجاه المطبخ!.. لأذهب أنا وأنشغل بما يجب من انشغالات ووظائف ومهام لا أنفك عنها. وقد وجدت الوقت مواتياً لاتمامها، مع أنها اعمال متعددة، ولا تنتهي، وإن انتهت، فلسوف يأتي غيرها ليفرض عليك واجب الالتزام به.
حقيقة. أنا مع كل ذلك أجد نفسي متفرغاً تماماً لانشغالاتي الفكرية والإبداعية الخاصة ، سواء في وقت الحظر أو خارجه، خصوصاً بعدما تقاعدت من الوظيفة تلقاء نفسي، منذ أكثر من عشر سنوات، لأتفرغ للكتابة والبحث والإبداع تماماً ، ولو لا تفرّغي هذا لما استطعت أن أنجز ما أنجزته من إبداعات مختلفة، كمّاً ونوعاً، ومنها على وجه الخصوص تلك الدراسات العلمية والفكرية والثقافية المتخصصة الصادرة في كتب مهمة، هي الآن – والحمد لله والشكر لله من قبل وبعد – تُعدُّ من بين أهم المراجع العربية في أدب ومسرح وثقافة الأطفال في العالم العربي .
ومع هذا أجد نفسي بحاجة إلى مزيد من الوقت الذي يمكنني من أداء ما مطلوب مني من التزامات، كثير منها تأتي بحكم العلاقات ، والاستشارات من هنا ومن هناك ، ولا أستطيع ردها، أو الاعتذار لأصحابها، كونها تتعلق بمسائل وقضايا علمية وفنية وإبداعية تدخل في صلب اختصاصك ومرجعيتك في هذا الجانب، وما أكثرها وهي تقف أمامي (في سطح الحاسوب) تنتظر وقت المرور عليها والخوض فيها، جوابا، وإغناء، ودرساً، وتوضيحاً، وتعديلا، وإضافة، وغير ذلك.
نعم، إن تكون باحثاً علمياً ومرجعياً متخصصاً لك منجزك العلمي المعروف هنا وهناك، فهذا الأمر يضيف إليك مسؤوليات أخرى كثيرة، وأعباء والتزامات مضافة لا مهرب منها، فهذا وهذه من طلبة وطالبات الدراسات العليا (ماجستير / دكتوراه) في مختلف الأقطار العربية، يرسلون لك تساؤلاتهم واستفساراتهم واستطلاعاتهم ليستفتوك ويأخذوا برأيك في هذه المسألة، أو تلك القضية ، وهذا الموضوع الخاص بأدب الأطفال أو مسرح الأطفال أو إعلام الأطفال، أو في عموم ما تضمه ثقافة الأطفال من مفاهيم وقضايا ومسميات، تدخل في صميمها العلمي والحياتي المتعدد الاتجاهات والمعاني والمظاهر والمفاهيم، وعليك أن تستجيب لكل ذلك وتجيب الجميع عنه بكل دقة، لا مناص من التنصل عنها.
وبالإضافة إلى ذلك، تأتيك من الأصدقاء والصديقات، من هنا ومن هناك، استشارة ما أو ابداع رأي أو ملاحظة، بخصوص هذا البحث، أو تلك الدراسة، أو هذه القصة ـ أو تلك الرواية، وقد وجدت نفسي ملزمة بكل ذلك، والاستجابة للجميع والوفاء لهم بكل رحابة.
يضاف هذا الجهد والمجهود إلى كل ما لديك من أعمال ومشاريع في الكتابة العلمية والإبداعية ، التي هي من صميم وصلب عملك الفكري والعلمي والإبداعي الذي يشغلك وتهمُّ به، كأعمال المتابعة، والقراءة، والتنقيب، لإنجاز أعمال البحث والدراسة في قضايا ومسائل مختلفة وجديدة تدور حول أدب الأطفال وثقافتهم.
ويضاف إلى ذلك، ما لديك من أفكار إبداعية لابد من صياغتها وإنجازها في هيئات متعددة من الكتابة الإبداعية التي تدور رحاها وأفلاكها وخيالاتها تحديداً في: شعر الأطفال، قصص الأطفال، مسرحيات الأطفال، قصص وروايات اليافعين، وغير ذلك مما يأتيك تكليفاً من دور ومؤسسات فكرية وعلمية وثقافية، لابد من الالتزام معها وانجازها ما مطلوب من أعمال إبداعية وفكرية .
وهكذا وجدت في وقت الحظر وقتاً آخر يضاف إلى وقت التفرّغ الإبداعي عندي ، وذلك للتواصل في إنجاز ما يمكن انجازه من أعمال علمية وإبداعية، بعضها كانت بنسب معينة من الإنجاز، أو مخطط لها، أو في طريقها إلى الإنجاز، لذلك كانت أيام الحظر عندي قد مرت بحالتين متفاوتتين إيجابية وسلبية، فما كان منها في الجانب السلبي، في الأيام الأولى للحظر وما سبقها من أيام، إنها فوّتت عليَّ فرص زيارة أكثر من قطر عربي، كنت مدعوّاً لزيارتها، وذلك عندما ألغيت لي عدة مشاركات عربية مهمة في أكثر من مؤتمر علمي معني بثقافة الأطفال، وآخر معني بأدب الأطفال، ومشاركة أخرى في معرض مهم لكتاب الطفل، إضافة إلى دعوة وجهت لي لأكون محكّماً في لجنة لتحكيم مسابقة عربية في أدب الأطفال، وكل هذه الأنشطة العربية المهمة كنت مدعواً ومتهيئاً للمشاركة فيها في أكثر من قطر عربي؛ لكنها ألغيت جميعها، بعد الغاء كل المؤتمرات والمعارض والأنشطة الثقافية في عموم الأقطار العربية بسبب تفشي كورونا، الذي أجبرك على الجلوس في البيت رهن ما تدور فيه من انشغالات، أحياناً ينتابك الملل والضجر في بعض أوقاتها نتيجة الروتين اليومي لحياة الحظر وقساوته في أوقات معينة، كونه يحول دون تحقيق بعض ما تريد تحقيقه من أعمال خارج البيت، من بينها التقاء الأصدقاء والتواصل مع المؤسسات الثقافية لأنجاز بعض الأعمال.
لكن كل ذلك يتم التغلب عليه وتجاوزه عندما تنتقل بك أيام الحظر من الحالة السلبية إلى الحالة الإيجابية، لتجد مدى فائدة أيام الحظر، وكم هي مهمة وممتعة ومنتجة بكل ما يشغل المبدع ويعزز من إنتاجه ورؤاه، فتجعل من أوقاته أكثر متعة وفائدة، وأولها بالقراءة، خصوصاً عندما تنشغل باكمال قراءة ما كان مؤجلا من كتب مهمة لديك، كانت تنتظر دورها في القراءة، وفي المقدمة منها رواية الكاتبة المبدعة الصديقة هيا صالح (لون آخر للغروب) الحائزة على جائزة كتارا للرواية العربية عام 2018 والتي أهدتني نسخة منها، حقاً أمتعتني واستمتعت بها، وبأسلوبها الشيق الذي شدّني إلى تفاصيل هذه الرواية العذبة وأعماقها المثيرة والمشوقة؛ لأجد فيها هيا صالح روائية عربية مهمة بامتياز ، مثلما هي كذلك كاتبة أطفال مهمة بامتياز؛ لأنتقل بعد هذه الرواية إلى كتب أخرى متنوعة بين الدراسات والإبداع، لا مجال لذكرها هنا، وهذا إلى جانب القراءة الرقمية المتواصلة، بعدما أجد نفسي أمام الحاسوب منشغلة بعالم آخر من القراءة والتأمل والتخيل والتدوين والكتابة.
وهكذا، تنشغل أيام الحظر ونشغل أوقاتها بانهماكات عديدة، ينتهي بها المطاف إلى انجازات مهمة على صعيد الإبداع، حيث شهدت تلك الأيام الأولى منها اكمالي وانجازي لرواية مهمة للغاية موجَّهة لفئة اليافعين، هذه الرواية التي لا أريد البوح هنا باسمها ، يقدّر لها ، وهذا ما يدور في ذهني، أن تكون في كل بيت نسخة منها؛ لأنها تعني الجميع وتهمه، كونها تعالج مشكلة إنسانية خطيرة تعاني منها كثير من الأسر والبيوت، ومن هنا تأتي أهمية هذه الرواية، إلى جانب أهميتها الفنية والأسلوبية واللغوية والعلمية في سردها الروائي، وأتوقّع لها إذا ما تبتنتها دار نشر مهمة، أن تطبع وتوزع بآلاف النسخ.
وضمن نشاطاته التفاعلية المستحدثة مؤخراً تحت عنوان ( اتحادك في بيتك ) دعاني الاتحاد العام للكتاب والأدباء في العراق، ضمن نشاطات منتدى أدب الطفل إلى جلسة تفاعلية عبر الإنترنت للحديث عن (ثقافة الأطفال الواقع والتحديات والآفاق المستقبلية) أدارتها المبدعة الصديقة الدكتورة زينب عبد الأمير، وذلك في الساعة الثامنة من مساء يوم 6 / 4 / 2020 ، وكان مقدر لوقت هذا الجلسة أن تكون ساعة، لكن كثرة المشاركين بطرح الأسئلة والمناقشات جعلت الاتحاد يمدد الوقت ويزيده إلى ساعة أخرى ، ومع هذا لم نلحق بالإجابة عن كل التساؤلات المطروحة. وقد تعهدنا بالإجابة كاملة عن كل التساؤلات الباقية. وهذا ما حصل بالفعل، حيث واصلنا الإجابة على بقية التساولات، التي امتدت لأيام متعددة انتهينا منها يوم 11/ 4 / 2020 ، ولتكون لدينا حصيلة مهمة من التساؤلات والإجابات ذات الأهمية والقيمة في قضايا ثقافة الأطفال، ولتصبح هذه الجلسة من أغزر وأغنى الجلسات الفكرية والثقافية المهمة، ويدور في بالي اعدادها وتهيئتها لتخرج في كتاب مهم يفيد الجميع ويضعهم في الصورة الواضحة لكثير من الاتجاهات والمعاني العلمية والاجتماعية والأدبية والتربوية والتكنولوجية التي تكون عليها ثقافة الأطفال في العصر الحديث لواقعنا العربي المعاصر .
وإلى جانب هذه الأنشطة، وخلال تصفحي المفاجئ لصفحات ومواقع الثقافة والنشر والإبداع في الأنترنت عثرت مصادفة على كتاب صادر لي لم أعلم به من قبل ، تحت عنوان (تساؤلات في ثقافة الطفل – دراسات ومقالات ) صادر عام 2019 عن دائرة الثقافة في الشارقة. ومع هذا واصلت الكتابة الإبداعية لأنتهي مؤخراً من أنجاز أكثر من قصة للأطفال، إلى جانب المواصلة الاستشارية في الرد عبر مواقع التواصل الاجتماعي على كثير من الأسئلة والاستفسارات الفنية والعلمية والفكرية التي تخص أدب الأطفال وثقافتهم.
وإلى جانب ذلك كله، وهذا هو الجانب الإنساني والنفسي المهم عندي، وهو نشر التفاؤل والفرح والاطمئنان في النفوس الخائفة من الأصدقاء والأحبة، فقد آلت على نفسي أن أكون عوناَ وسنداً للجميع ، فمنذ الأيام الأولى لاجتياح كرونا لفضاءات العالم ونشر الرعب والخوف في النفوس، كنت أطمئن الأصدقاء والصديقات من الأحبة، وأمدهم بالقوة التي تزيد من طاقاتهم الإيجابية التي سعت الطاقات السلبية إلى إضعافها بسبب المخاوف والهلع الذي اجتاحها بسبب كورونا، كنت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أزرع في نفوسهم الأمل والتفاؤل والفرح، وأحثهم على التحلي بالصبر والقوة، والتماسك، والتقيد بالتعاليم الصحية الصحيحة، مع اشغال الوقت بالأشياء المفيدة في أوقات الحظر، وفي المقدمة منها قراءة الكتب والاستمتاع بها مع مافيها من فوائد عظيمة تزيد من طاقاتنا الإيجابية، ومن قوة المناعة في الروح والنفس ، وهذا الجانب الذي عزز من قوة ونفوس وطاقات العديد من الأصدقاء والصديقات من الكتاب والأدباء ومن عامة الأصدقاء ممن كان يتواصل معي عبر مواقع التواصل الاجتماعي على مدى أيام الحظر، كنت أعده من أهم الجوانب التي كنت أقوم بها مع هؤلاء الأحبة، وقد أسعدني غاية السعادة بما حققه من نتائج ايجابية عظيمة أفصح عنها هؤلاء الأصدقاء، وهم يقدمون لي الشكر والامتنان على ذلك الذي جعلهم يطردون مخاوفهم بقوة ما كان من حديث شيق وممتع جرى بيني وبينهم، ومازال التواصل مع الأصدقاء، ومع محصلات الإبداع وأفكاره، ومع الانشغالات المتعددة الأخرى بكل نشاط ودأب وحيوية، ونحن هنا نواصل الحياة مع أيام أخرى من أيام الحظر .