القاهرة 21 ابريل 2020 الساعة 12:48 م
كتب: حاتم عبدالهادى السيد
بداية فان كل فن أدبى مستحدث يحتاج الى نظرة تأمل ، وأسئلة ، واستفسارات عن الماهية ،والتكوين ، والعناصر ، والخصائص المنتجة لهذا النوع ، أو الجنس الأدبى الجديد ، وغير ذلك .
ومن هنا يجىء السؤال : هل القصة الشاعرة نوعاً تطورياً ، وشكلاً جديداً ، يضاف لمسيرة القصة العربية في شكلها الحداثى ، أو مابعد الحداثى والمفاهيمى ، وغير ذلك ؟ أم انها تمثل جنساً أدبياً جديداً ، مغايراً لطبيعة القصة الحالية ، بأشكالها المختلفة ، وبفنياتها المستقرة ؟! .
وأيما كان الأمر ، فاننا - بداية - نشجع كل فن جديد ، أو أي طريقة تستحدث للفن آفاقاً تغايرية ، وتجدد ثوبه الابداعى ، ليساير تطورات العصر ،وحاجاته ومتطلباته التى تستدعى من المبدع تطويراً لشكل ومضمونية العمل الابداعى الذى ينتجه.
ومع كثرة الدراسات التى قدمها النقاد للقصة الشاعرة ، علاوة الى المؤتمرات ، والضجيج الاعلامى المتزايد عنها ، فاننى أتوجه ببعض الأسئلة التى يمكن أن تجلى الكثير من اللغط والغموض اللذان أحاطا بها ، ومنها : " هل هناك تعريف محدد للقصة الشاعرة ؟ وما شروطها ، وخصائصها الفنية ؟ وما الفرق بينها وبين الشعر القصصى من جهة ، والشعر الحر ، والقصيدة / القصة ، والقصة / القصيدة ، وقصيدة النثر ، والمسرحية الشعرية ، والابيجراما الشعرية ، والقصة الومضة ، والقصة القصيرة جداً ، والقصيدة الومضة ، والمقامة الشعرية والنثرية ، وفن التوقيع ، والشعر المرسل ، والحكايات الشعبية ، والشعر الحكائى ، وغيرها ، وكلها أنواع أدبية تطورية – فيما أحسب ، ولاتمثل جنساً تغايرياً مختلفاً ، بل هى طرائق للتعبير وتجديد اما في الشكل ، أو في المضمون ، أو في الشكل والمضمون معاً ، مع الاتكاء على مكونات النوع الأدبى ، وما قدمه من تجارب تم الاستقراء لها ، والاستقرار على شكلها ومضامنيتها ، بحيث يسهل الفصل بينها ، كى لايحدث تميّعاً في الفن ، فيدخل ماهو غير ابداعى في مسيرة الابداع ، وتختلط الأمور ، فلا يجد الناقد – بداهة – الا أن ينخرط في التنظير معتمداً تلك الشروط التى اختطها المبتكرون – على حد زعمهم - ، والمجربون ، أو المخربون كذلك ، ظانين أنهم بهذا التجديد يقدموا حداثة تنويرية لهذه الفنون ، بينما هم يقومون بعملية تعمية للفن ، بقصدية ، أو بحسن نية ، والابداع ، والفن ، والعلم لا ينطلق من حسن النوايا ، بل من الأفكار الكبرى والغائيات المنتجة والمعيارية التى تبتنى أشكالاً تفصل بين الفنون الابداعية ، أو تنطلق من خلالها ، فيما أطلق عليه مؤخراً - الكتابة عبر النوعية ، أو الكتابة الأخرى ، أو الكتابة الجديدة - وغير ذلك ، ونحن وان كنا نميل الى السير قدماً مع كل ما هو جديد ، الا أنه لايمكننا أن نقف كذلك مكتوفى الأيدى ، ننظر الى اختلاط المفاهيم بدعاوى الحداثة ، وما بعد الحداثة ، والتجريب ، دون الاتّكاء الى مرجعيات سابقة ، أو النظر الى المنجز التراثى الكبير الكمّى والكيفى، والنوعى ، لابداعنا العربى : الشعرى والقصصى .
ومعلوم كذلك أن القصة القصيرة بمفهومها الحالى : هى فن غربى – وان حاولنا أن نجذّر له ، ونمتاح من التراث العربى النماذج الموحية ، والدالة الى وجوده ، الا أن الاستقراء النقدى قد انحاز الى كون اتباع والحاق القصة القصيرة – بشروطها الكلاسيكية المعروفة - من مقدمة ، وحدث ، وعقدة ، وموضوع ، ونهاية ، وغير ذلك – بالفنون الغربية التى بشّرت بوجودها ، وركننا - كعرب - الى تقليد كل ماهو مبتدع ، وجديد ، وما هو غير عربى كذلك .
لذا يجىء الحديث عن ابتكارية فن عربى حداثى من باب الضرورة المجتمعية ، التى يراها بعض النقاد والمبدعين ، وهذا اتجاه وجيه يحترم ، لكن اذا ناقشنا – بهدوء – ودون فكرة المؤامرة والرفض لما كل هو جديد ومبتكر ، موضوعة : " القصة الشاعرة " ، أو القصة الومضة – والتى أعتبرها كذلك – شكلاً جديداً من الأشكال التطوريّة للقصة العربية ، التى تأسست كذلك على مفاهيم غربية ، من حيث البناء ، الا أنها طورت من وجودها ، لتصبح لها السمات ، والنكهة العربية ، والبعد التراثى وغير ذلك ، الا أن مفصليات التركيب – كما أتفق عليه – لاتنفى عنها كونها اعتمدت في بنائياتها على المفهوم الكلاسيكى الغربى ، كى لا ندخل في جدليات عقيمة ، لا داعى منها ، وكى لا أوصف – عبر فكرة المؤامرة – بتغليب الغرب على العرب ، فالعلم والابداع ينطلقان من مفاهيم وأسس انسانية في الأساس وتظل الأسبقية للابتكارية ، وطرائق التعبير ، والشكل ، وغير ذلك ، ومن هنا ونحن نبحث في : النوع ، والاجناسية ، لابد أن نفرق بين ماهية الشعر ، وماهية القصّ ، كيما ننسب كل فن الى ثوابته ومعاييره التى استقرت في الذهنية ، والاستقراء والتنظير النقدى ، وغير ذلك .
ان توصيف الفن الجديد : " القصة الشاعرة " هو توصيف يعتمد نوعين من الأجناس الأدبية المستقرة وهما : القصة كفن ، والشعر كفن ، وكلاهما منفصلان تماماً ، وان كان الشعر في الأساس هو قصة - عبر المتخيّل الشعرى - والسياق المفهومى ، لتوصيل رسالة للعقل التّشاركى ، أو القارىء المستقبل لهذا الابداع ، الذى قصد به كاتبه معنى ما ، أو معان وقيم ، ومضمونية يتغيّاها في الرسالة الأدبية الابداعية ، أو الدرس الأدبى الابداعى ، والتى يصوغها بلغة الشعر ، أو بالنثر ، أو بكليهما معاً ، ومن هنا يجىء دور النقّاد للتفريق بين جوهر الفنون ، ووضع الضوابط المنهجية والمعيارية التى تسم الفن بشكل عام ، أو الاشتراطات المنهجية التى تفصل بين سمات كل فن ، وتلك الخصائص التى تميزه عن غيره من الفنون الأخرى ، وأيما كان الأمر فأننى قد لا أقدم هنا تأصيلاً نقديا - قد يغضب الكثيرين - لكن لامندوحة في الضمير النقدى من اطلاق الأسئلة التى تستدعى اجابات قد تكوّن مفاهيمية تستند الى معايير وبراهين مبنية على قواعد عقلية وفنية ، لمداعبة العقل النقدى ، عبر التساؤلات التى من شأنها الوصول الى حكم معيارى ، لا نهائى ، لأن الفن ينطلق من أصول معيارية ممنهجة – كما أحسب – وما الضوابط المنهجية كذلك سوى اطار كلى عام في سياق البنائية التكوينية لذلك الابداع ، ولأننا لم نتوصل بعد الى نظرية – أو جهاز طبى - لقياس المشاعر الانسانية ، ووضع حدود لها ، كما أنه لا يمكن قياس آفاق التخييل ، التى تبتنى عليها الفنون مقوماتها المختلفة ، لذا فان الحكم المطلق،لايجدى مع الفن ، ولكنها أحكاما اطارية داخل السياقات التى تكوّن ماهيات العمل الابداعى بصفة عامة.
ومن هذا المنطلق – وغيره - فان أى فن جديد ، لا يمكن أن نطلق عليه جنساً أدبياً مغايراً ، دون أن ينتج ابتكارية ، وموضوعية ، واستقراراً نسبياً معيارياً ، دون النظر من جهة أخرى لما هو موجود ، بل نشترط ايجادية ابتكارية لغير موجود في الأصل ، كى نطلق عليه اجناسية جديدة ، ومن هنا – كما أحسب – فالشعر والنثر سرد القصصى، قد أوجدا لهما في التراث الانسانى مكانة مغايرة ، ووضع لهما النقاد – عبر اللغة – الشروط والمعايير التى تفرق بينهما ، واستقرت الذهنية والوجدانية الانسانية وركنت الى ذلك، وتم تقعيد القواعد والاستقراء العلمى المنهجى لكليهما ، فاذا جاء أحد لوضع اجناسية جديدة ، فعليه أن يختار تجنيساً جديداً ، حتى بعيداً عن المسمى الشعرى والنثرى ، كى لا يحدث الالتباس ، وكى لا ندخل ماهو غير مقيس ، الى ما هو مقيس ، باشتراطاته السابقة ، ومن هذا المنطق الاستدلالى العقلى ، فان الذهنية قد وازنت بين الجنسين ، وانتهى الأمر ، فاذا ما أردنا أن نبتدع جنساً ثالثاً مغايراً يقف بين النثر والشعر ، أو يجاوزهما ، فلابد من ابتداع وابتكار مسمى جديداً مختلفاً عن الشعر والنثر – عبر اللغة أيضاً – ولا يجب أن نخلط بين ماهو شعرى ، وما هو نثرى لنقول : أننا أتينا باجناسية جديدة مغايرة ومختلفة ، ولكننا سنقول آنذاك بأننا أتينا بشكل جديد ، ونوع مغاير ، لما هو مستقر في الذهنية العربية ، أو العالمية ، ومن هنا يعتبر هذا الفن الجديد اضافة لما هو سابق عليه ، وتطويراً له ، مع وجود الخصوصية بالطبع للفن الجديد ، لأنه اعتمد منذ البداية على الثوابت المستقرة لماهية الشعر والقص كما هو مستقر ، أوبنظرة تقريبية مفادها : مقولة السيد المسيح عليه السلام : " ما جئت لأهدم الناموس ، وانما لأضيف " ، هذا في المكون الدينى ، فيضيف ماهو لاحق على ماهو سابق لتتجدد المسيرة الانسانية.
هذا وبنظرة الى فلسفة العلم ، وتطورات اللغة عبر الألسنية ، والنظريات الجديدة ، وغير ذلك ، فاننا لن نحدث بدعاً ، اذ اللغة موجودة ، وقديمة قدم الانسان ، بل هى أقدم من وجود الانسان على الأرض ، كما وجدنا في القرآن الكريم من تعليم المولى عز وجل لآدم عليه السلام كل اللغات ، كما علم سليمان عليه السلام منطق الطير ، وقصر المعلومية على الانسان في العلم ، بالشىء القليل ، مصداقاً لقوله تعالى : " وما أوتيتم من العلم الا قليلاً " ،صدق الله العظيم .
ومن كل هذه المنطلقات التى تدعو الى تطور العلوم والفنون ، واكتشاف ما هو مخبوء ، فان الانسان عليه أن يبحث ويتدبّر بعقله في الكون ، والعالم ، والحياة ، ويبحث في ماورائيات العلم ، بغية اكتشاف علوم جديدة ، وفنون مغايرة ، وتلك طبيعة الحياة في التطور والنشوء والارتقاء ، والا ما كانت حداثة ، وما نتجت حضارة ، وما أكتشفت علوم جديدة كل يوم.
ومن هنا يقع الناقد في حيرة تساؤلية عن الاطار الذى يقولب العلوم ، والفنون ، فهل نحن هنا بصدد اجناسية جديدة مغايرة ، أم اضافة جديدة ، تسع السياق الكونى للنص الابداعى بتمحوراته وأشكاله ، وبنائيته التكوينية ، والتركيبية ، واشتراطاته التى تتسق مع المفاهيم العقلية ، والاستدلالات الفلسفية ،التى ننطلق معها ، في حدود العقل والوجدان معاً ،بغية نشوء فنون انسانية جمالية تثبت وحدانية الخالق وابداعه ، لنقف مشدوهين أمام اعمار الانسان للأرض والحياة والعلوم ونقول : ياالله ، لنعلى من القيمة المخلوقة ، التى تضاف الى الحقيقة الأولى لوجود الانسان على أرض الاله الخالق العظيم.
ان الجمال موجود في الكون ، والمبدع عندما يقدم الصورة الجمالية في النص الفنى أو الأدبى ، انما يحاكى الواقع الذى أوجده المولى عز وجل ، وقد منحنا الخالق العقل ، وأمرنا لنتفكر ونتدبر للوصول الى غائية كبرى ، للكون ، والعالم ، والاله ، وكل ذلك للتدليل الى الوحدانية ، ووجود الخالق العظيم ، ومن هنا كان الانسان تأمل وتدبر لاكتشاف مناطق أكثر اشراقاً ، عبر العقل والوجدان ، والتفكّر في صنع المولى ، والذى يجىء - التخييل -برهاناً ، ودلالة على الحقيقة الملحّة ، في رحلة البحث الانسانى الكبيرة ، ومن هنا وجب أن نخرج الى أسئلة الوجود الكبرى ونحن نضارع النظريات الجديدة التى نختطها للابداع ، لنجابه ونضارع ونناظرجمالية الكون ، والحياة الانسانية.
وقد يقول قائل : انت خرجت هنا عن السياق الموضوع لتحدث مثاقفة كبرى ، أو تحاول هدم النظرية الانسانية التى تستدعى الوجود الانسانى لتسيير الكون بمعايير ليس مجالها هنا ، ولكننا لم نخرج عن السياق – فيما نحسب – لأننا نؤمن بأن الانسان هو محور الابداع ، والكون ، والحياة ، والعالم كله مسخّر لاطلاق قدراته غير المحدودة ، في الكون المحدودواللانهائى التدويرى أيضاً ، وعلينا أن نجابه ماهو مادى وانسانى ، بما هو كونى وثقافى ، كى نضع البصمة الانسانية لوجودنا الانسانى.