القاهرة 07 ابريل 2020 الساعة 11:48 ص
كتب: طلعت رضوان
توفيق الحكيم فى أعماله الكثيرة، سواء الإبداعية أو الفكرية، أثبت ولعه الشديد بتوظيف (ملكة الخيال) وهو ما فعله عندما فكر في (خروج أهل الكهف) الذين جاءتْ قصتهم فى القرآن.. وفى سورة بنفس الاسم (الكهف) وهى السورة رقم18 حسب ترتيب السور فى مصحف عثمان.. وهى عن الفتية الذين ((ضربنا على أذانهم فى الكهف سنين عددًا، ثم بعثناهم لنعلم أى الحزبيْن.. وسيقولون ثلاثة ورابعهم كلبهم. وسيقولون خمسة.. وسبعة و ثامنهم كلبهم.. إلخ (سورة الكهف- الآيات من 11- 22).
قرأ الحكيم هذا النص الدينى.. وأطلق عقله ليسبح فى فضاءات الخيال.. وبالتالى طرح على نفسه هذا السؤال: ما انطباع أهل الكهف لو خرجوا للحياة.. ورأوا الواقع الجديد، بعد أنْ مكثوا فى الكهف ((ثلاثمائة سنة.. وازدادوا تسعا)) (سورة الكهف- الآية رقم25).
بدأ الحكيم الفصل الأول بحوار بين أشخاص المسرحية، الذين نهضوا بعد نوم طويل.. وهم يشعرون ((بوجع فى ضلوعم)) على اعتقاد منهم أنهم ناموا نوما متواصلا لمدة استغرقتْ يوما كاملا (بليله ونهاره) أى أنهم لايعلمون عدد السنين التى قضوها فى الكهف.. وعلى سبيل المثال قال (مرنوش) لبثنا (يوما أو بعض يوم) ولما سأله (مشلينيا) من أدراك؟ أجاب: وهل ننام أكثر من هذا القدر؟ وعندما قال (مشلينيا) أنه يود الخروج من الكهف، فإنّ (مرنوش) اعترض واقترح عليه أنْ يمكث فى الكهف ليلتيْن أو ثلاثا ((حتى نأمن على حياتنا من دقيانوس)).
فمن هو (دقيانوس) الذى يخشاه أهل الكهف.. وبسبب هذا الخوف كانت فكرة الاختباء فى الكهف.. ومع ملاحظة أنّ سورة الكهف فى القرآن تناولتْ الملائكة الذين ((سجدوا لآدم)) إلا إبليس الذى كان من الجن.. وفسق عن أمر ربه.. وتناولتْ القرى التى أهلكها الله لظلمهم.. وتناولتْ قول موسى لفتاه: لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحريْن وأمضى حقبا، إلى أنْ قال له: لن تستطيع معى صبرًا (سورة الكهف/75) وتناولتْ من قالوا ((يا ذا القرنيْن إنّ يأجوج ومأجوج مفسدون فى الأرض)) (سورة الكهف/ 94) كما تناولت الآية الشهيرة ((قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربى لنفد البحر قبل أنْ تنفد كلمات ربى.. إلخ)) (سوة الكهف/ 109، 110).
لقد تعمدت التعرض لسورة الكهف كما وردتْ فى القرآن، لأدلل على أنها بعد ذكر الفتية الذين ناموا فى الكهف لأكثر من300سنة، فإنّ نفس السورة لم تتعرّض لشخص الحاكم الرومانى (دقيانوس) الذى اضطهد المصريين الذين اعتنقوا الديانة المسيحية.. وهى فى بداية دعوتها.. وكان الدخول فى الدين الجديد يتم سرًا.. ولذلك فإنّ الحاكم الرومانى، الذى رفض اعتناق المسيحية، أراد أنْ يفرض رأيه على جميع المصريين، مثله فى ذلك مثل أى حاكم مستبد.. ومن هنا كانت براعة توفيق الحكيم الذى تجاوز النص القرآنى (بالرغم من أنّ سورة الكهف هى ملهمته) وانطلق بخياله كى يتصوّرحالة أهل الكهف.. ومنحهم أسماء من وحى خياله.. وتخير ردود أفعالهم بعد اكتشافهم لحقيقة ما حدث.
ولذلك استهل الفصل الأول بشخصية (يمليخا) الذى أخفى عن أقرب الناس إليه أنه اعتنق المسيحية، باستثناء أصدقائه الذين اعتنقوا الدين الجديد.. ولم يهتموا باضطهاد الحاكم الرومانى..وهربوا ((من المذبحة)) التى أعـدّها الحاكم، وراح ضحيتها الآلاف من المصريين الذين تنازلوا عن ديانتهم القديمة.. واعتنقوا المسيحية.. وفى إشارة دالة قال (يمليخا) أنّ دقيانوس (عدو المسيحية) لم يكن يعلم أنّ وزيريْه ((مسيحيان)) والأكثر أهمية ما أضافه (مرنوش) الذى قال: كما أنّ دقيانوس لايعلم أنّ ابنته اعتنقتْ المسيحية. اندهش (يمليخا) وقال بدهشة: الأميرة بريسكا اعتنقتْ المسيحية؟! وقال (مرنوش) بذعر لصديقه (مشلينيا) أعتب عليك لأنك لم تخبرني أنك أهديتَ الفتاة بريسكا صليبا صغيرًا من الذهب.. وأنك صنعته لها خصيصا (على شكل مفتاح الحياة- عنخ- المنقوش على جداريات المعابد المصرية، وذلك قبل مولد السيد المسيح) واختتم كلامه قائلا: لماذا لم تخبرنى لآخذ حذرى؟ ولم تركتُ زوجتى وولدىّ فى عذاب القلق وسط هذه المذبحة.. وإنى أحمد الله على أنْ ليس أحد يعلم أنهما مسيحيان.. ولا أنهما يمتان إلىّ بصلة.. كما أنّ أمر زواجى سرٌ لا يعرفه غير ثلاثة الآن.. وأنا أخفى زوجتى وولدىّ عن الناس، فى بيت منفرد منذ سنوات.. ولا خوف عليهما.. وقد عصفتْ قبل اليوم مذابح ومجازر فلم يمتد إليهما أذى.
قاله له (يمليخا) ذلك من فضل المسيح. فقال (مرنوش) ولكن من
سوء المصادفة أنْ يظهر سرنا للملك.. ولم يمض يومان على أمره بذبح المسيحيين.. وقيل أنه جعل يجأر.. والرسالة التى وصلته.. وفيها خبر اعتناق ابنته المسيحية فى يده.. ونادى ابنته وأطلعها على الرسالة.. وهو يصيح بمن حوله: أعدوا أقفاص السباع الضارية. فسنقدم لها وليمة لاتنساها.. وكان تعليق (مرنوش) لو لم تنسل الأميرة بريسكا إلى باب القصر تنتظر عودتنا (من صلاة الفصح) لتدعونا إلى الفرار.. وقال (يمليخا) لقد شاء لكما المسيح النجاة. فقال (مرنوش) ولكن أية نجاة هذه التى تفصل بينى وبين زوجتى وولدىّ؟! ولما قال له (يمليخا) الصبر.. وإنّ رحمة الله قريبة، ردّ عليه قائلا: قرب السماء من الأرض. تلك الرحمة التى لا تسعف إلاّمن يستطيع الانتظار.
تأذى (يمليخا) من كلامه فقال له: لا تسخر من قدرة الله.. وأنّ الله حق. فقال (مرنوش) لا شأن لله بنا.. ونحن اللذان أوقعنا بنفسينا فى التهلكة.. ولكن يمليخا ردّ عليه قائلا: كل شيء على هذه الأرض بأمر الله.. ولأنّ المبدع مؤمن بتعدد الأصوات فى كل أعماله الإبداعية، لذلك جعل (مرنوش) يرد على صديقه قائلا: إلا ما نحن فيه فقد ((حدث بفعل الإنسان)) فردّ يمليخا (رمز المؤمن الرافض لأى تشكك فى الدين) وقال: استغفر الله.. هذا كلام لا يلفظه مؤمن.. وهذا الموقف فعل مثله (مشلينيا) الذى قال أنه سيذهب لمقابلة الملك ويقول له: لقد جنيتُ على (مرنوش) ظلما.. وأنّ اسمه الوارد فى (رسالة المعارضين لسلطة الرومان) لاشيا..وأنه مستعد لتقديم حياته بدلا منه.. ولكن (مرنوش) ردّ عليه قائلا: اجلس وكفى هذرًا.. وقل إنك ذاهب لترى حبيبتك. اجلس ولا تكن سببا فى نكبة أخرى.. ومهما تقول للملك فإنه لن يصدقك.. وربما حملك بالإرهاب والتعذيب على الإخبار بمكانى.. ولما قال ماذا أستطيع أنْ أفعل؟ قال يمليخا: دع الأمر للمسيح. فردّ عليه: ليت المسيح يعلم بما فى ضميرى. فقال يمليخا بغضب: أو تشك فى أنه يعلم؟ استغفر الله.. وأنا أعتقد أنه يعلم وسيخفف عنك. سأله: متى؟ قال: اللهن رحماك. نحن لا نملك حق السؤال. فقال مشلينا: إنى أعجب بشدة من إيمانك يا مليخا، الذى ردّ عليه: إنى مؤمن بالمسيح لأنه حق.. ولا يمكن أنْ تكون هذه البشرية، قد بذلتْ أرواحها وسفكتْ دماءها من أجل شيء غير الحق، فسأله: هل وُلدتَ مسيحيا؟ أم اعتنقتَ الدين على كبر؟ قال: لقد وُلدتُ مسيحيا.. ولكن الإيمان الحقيقى هو إيمان اليقين والإقناع.. وحدث ذلك يوم سمعتُ ذلك الراهب يتكلم تحت أسوار (طرسوس) سأله: أى راهب وماذا كان يقول؟
قال: لستُ أذكر أي شيء مما قال.. ولكننى لن أنسى ما شعرتُ به.. وهو إحساس لم أشعر به من قبل، شعرتُ بجمال الغروب.. وهذا الجمال على غرابته ليس مجهولا عندى.. وقمتُ فى الفجر فذكرتُ صور الماضى.. وفجأة برقتْ فى رأسى فكرة: هذا الجمال كان موجودًا دوما.. ومنذ وُجدتْ الخليقة.. وهذا ما شعرتُ به وأنا أصغى للراهب.. وأنّ كلامه الذى أسمعه أول مرة، ليس جديدًا علىّ.. ولكن أين سمعته ومتى؟ أفى طفولتى أم فى الحلم؟ أم قبل ولادتى؟ المهم منذ تلك اللحظة تولدت فى نفسى ((عقيدة أنّ هذا الكلام هو الحق)) ولا أتصور بدء الوجود بدونه.. ولا نهايته بدونه.. وكانت المفاجأة فى رد (مرنوش) الذى قال: إنّ كلام الراهب (هراء) ولا أفهم كلامه. فقال مشلينا: أنت لا تفهم أي شيء سوى أنك غبت ليلة عن زوجتك وولدك. فسأله: وأنت ماذا فهمت؟ قال: فهمتُ أننا بعيدان عن الله. فقال (مرنوش) وأى بأسٍ فى ذلك؟ فقال يمليخا مستنكرًا: اللهم رحماك.. واغفر له.
فكر مشلينيا فى الخروج من الكهف.. ولكن (مرنوش) حذره خشية أنْ يراه أحد فقال له: لا بأس سأذهب أستطلع الموقف فى الخارج وأعود، فسأله (مرنوش) وإذا لمحك أحد وعرف من أنت؟ فقال: لا تخف، سأتسلل فى الظلام.. وأضاف بعتاب: لقد محوتَ يا مرنوش كل شيء طيب من ذاكرتى. فقال له: لأنى أبديتُ بعض الحذر من نزق عاشق مثلك؟! فقال مشلينيا: بل لأنك لا تفكر منذ جئنا هنا إلا فى نفسك.. وفيما يمكن أنْ يعرضك للخطر، فردّ عليه: وأنت لا تفكر إلاّفى الذهاب إلى من تحب، ولو جلبتَ على أصحابك المشاكل.. وما أعمى عين المحب وما أكفره. فقال له: قل هذا لنفسك، فردّ عليه: أنا أرى عيوبى.. ولا أكفر بفضل إنسان. فقال له بتهكم: لو أن الراهب هنا لأخبرك أنك كفرت على الأقل بالله والمسيح. فقال مرنوش: أنك لفتى سيىء..وأنا لستُ مثلك يسهل محو كل شيء طيب من ذاكرتى.. وأنا لا أستطيع أنْ أنسى يا مشلينيا أنك الوحيد الذى عاوننى فى زواجى الخفى.. ولازمتنى فى كل ظروفى الحرجة، التى مرّتْ بها أسرتى.. ولا أستطيع أنْ أنسى أنك كنت تفرش معى المنزل..وتحمل إلينا على ذراعيك (ليلا وسرًا) الخضر والفاكهة.. ولا أنسى يوم وُلد ابنى أنك وقفت معى وساعدتنى. فقال مشلينيا: لا أريد تذكر هذا. أريد فقط أنْ تذكر أنك بترديدك وتلميحاتك بأننى سبب مصائبك، تجعلنى أشعر بوخز الضمير.
فقال مرنوش: إنّ الحب يبلع كل شيء حتى الصداقة.. وحتى الإيمان، فقال مشلينيا: لولا زوجتك المسيحية، لما كنتَ اعتنقتَ المسيحية، خاصة وأنك ساعدتَ دقيانوس فى مذابحه ضد المصريين الذين اعتنقوا الدين الجديد، فقال مرنوش: ولولاك أنت لما اعتنقتْ الأميرة بريسكا دين المسيح.. وهى المؤمنة بدين أبيها دقيانوس. فسأله: أتراها حقيقة تركتْ دين أبيها لهذا السبب؟ فقال: ما فى هذا شك.
وتذكر مشلينيا فى فرح الليلة التى رأى فيها بريسكا فى ثوبها الأبيض.. وهى تخطر فى بهو الأعمدة، حيث موعده معها.. ويومها قال لها: إنك ملك من ملائكة السماء. فنظرتْ إليه بدهشة.. وسألته عن معنى (ملائكة السماء) قال: إنها فى المعتقد المسيحى، هى أسماء لمخلوقات أسمى وألطف من مخلوقات الأرض، ثم صمت لحظة وقال لها بخبث: ليتنى كنتُ مسيحيا، فسألته: لماذا؟ قال: حتى أستطيع أنْ أكون خطيبك أمام الله.. وأنْ يكون بيننا عقد مقدس، لا يستطيع أحدنا الحنث به.
سألته: أهذا فى المسيحية؟ وأضافتْ بسذاجة: وأنا أيضا ليتنى كنتُ مسيحية.
قال مرنوش لصديقه: لقد أخذتَ حبيبتك وذهبتما إلى الراهب كى يــُـدخلها فى الدين، فقال مشلينيا: بفضل رأيك ومعونتك.. ولستُ أنسى يا مرنوش حرج موقفك، خاصة وأنك تسترتَ على غيابنا بحجج مختلفة. غير أنى لا أرتعد لشيء مثلما أرتعد لذكرى دقيانوس.. وقد فاجأنى مرة فى بهوالأعمدة.. وأنا أنتظر بريسكا.. وفى يدى الكتاب المقدس.. وقال لى بصوته الغاضب القوى: ما هذا الكتاب؟ وهنا تقدمتَ أنت يا مرنوش وخطفته من يدى وقلت للملك: هذا كتابى، نسيته فى البهو.. وعندئذ أدركتُ أنك مستعد للهلاك من أجلى.. وأضاف: ما أعجب تركيب الإنسان! فينا القوة أحيانا لدرجة العظمة والتضحية.. وفينا الضعف أحيانا لدرجة الحقارة والأنانية.
تجوّل مشلينيا فى المدينة.. ولما عرض النقود التى معه، ضحك الناس وسخروا منه عندما وجدوا المكتوب عليها أنها صدرتْ فى (عهد دقيانوس) وتعجبوا لأنّ دقيانوس مات من مئات السنين.. كما اندهشوا من لحيته الطويلة وهيئته القذرة. ونفس الشيء حدث لكل من مرنوش ويمليخا الذى قال: ما كدتُ أسير خطوتيْن حتى رأيتُ أمامى فارسا يلبس لباسا غريبا وكأنه صياد، فأبرزتُ له مما معى من فضة.. وعارضا شراء بعض صيده، فما تبيننى.. وامتلأ رعبا..وفرسه يهم بالركض، فأمسكتُ بزمام الدابة.. وأوقفتُ الرجل.. وأنا ألوّح له بالنقود.. وفى النهاية أخذ منى قطعة فى حذر وجعل يتأملها وأنا أرقبه.. وإذا هو يقول فى تلعثم وخوف ورعب وهو يقلبها بين أصابعه: دقيانوس!! ضرب فى عهد دقيانوس!! وأضاف: هذه النقود قديمة.. هل معك منها الكثير؟ أنت معك كنز.
سأل يمليخيا: كم مكثنا فى الكهف: قال مرنوش: حوالىْ شهر. فقال يمليخا: لقد سمعتُ من جدتى وأنا صغير أنّ راعيا اعتصم بغار بعد فيضان سيل هائل.. وكان مؤمنا بالله والمسيح.. ونام شهرًا حتى انقطع السيل.. وصحا وخرج سالمل كما دخل، ولم يشعر بالزمن.. وكان رد مرنوش: تلك أساطير عجائز مخرفين.. ولكن يمليخا قال: لقد رأيتُ الشمس تميل عن الكهف على نحو عجيب, أليس ذلك كى لا تؤذي حرارتها أبداننا؟ إنها إرادة الله والمسيح. قال مرنوش بتهكم: يعنى لولا وجودك يا يمليخا ما كانت إرادة الله والمسيح. انتفض مشلينيا.. وقال: استغفر الله يا مرنوش.. وهم بالانصرف.. وعندما حاول مرنوش منعه قال: لن تمنعنى قوة على الأرض، فقال مرنوش بسخرية: ولا في السماء.
وللمقال بقية في العدد القادم بإذن الله..