القاهرة 07 ابريل 2020 الساعة 11:42 ص
بقلم: د. محمد السيد إسماعيل
يمكن القول إن الحالة البرزخية الفاصلة بين الموت والحياة تمثل محور هذا الديوان كما تمثل مأزق الذات التى ترمز لأبناء القهر أو أنصاف الموتى الذين لفظهم الموت وأخطأتهم الحياة كما يبدو من الإهداء، فنحن أمام ذات تشتهى الموت أو تستدير إليه – على نحو ما يوحى عنوان الديوان – لكنها لا تناله وفى الوقت نفسه لا تستطيع الحياة حقيقة.
ومن هنا كانت رؤية الشاعرة للموت هذه الرؤية التى تتجاوز كونه فراق الروح للجسد فصور الموت متعددة داخل الحياة ذاتها "فالقهر موت / فرقة الأحباب موت / الفقر موت / غربة الأوطان موت " ولهذا أصبح من حق الشاعرة أن تتساءل " من أى موت سوف تعبرنا الحياة؟" "للموت در" تقى المرسى ص18الهيئة المصرية العامة للكتاب 2019)
ورغم تعدد صور الموت فإن الشاعرة لا تفقد أملها فى حياة أخرى مغايرة ومن هنا يتكرر دال "الباب" بوصفه مكان عبور من الضيق إلى الاتساع: "لا لست وحدك ها هنا / الباب متسع فمر" ويتحول الباب إلى رمز فاصل بين حياتين تشبهان الليل والنهار، ولهذا يصبح من المهم أن يظل هذا الباب مشرعا استعدادا للخروج تقول الشاعرة "لا تغلق الباب / الباب متسع / وهذا الليل فاتحة النهار" لكنها فى مفتتح الديوان ترى الموت خلاصا من الأسر تحقيقا للحرية بعد أن انتصر السراب "ولف الضباب على الضباب / وتعانقت فى الريح أبواق الخراب " وأصبح " لاصوت يعلو فوق صوت الانسحاب" من الحياة الذى سوف يحقق خلاص الروح من أسر الجسد أو خلاص الإنسان نفسه من أعباء الحياة.
هذه الأعباء التى تستدعى عذابات المسيح وصورة الصلب التى تتمثلها الشاعرة فى قولها "بعض وعشرون انكسارا / والجروح الشامخات تعيد صلبى عنوة / سأظل فوق الصلب واقفة أغنى / رغم انتمائى للتراب كرهت أشجار التمنى" توحى هذه السطور وغيرها بأننا أمام ثنائية دائمة الحضور تتمثل فى الانكسار والمقاومة فرغم الانكسار الذى يبلغ بعضا وعشرين عاما ورغم الصلب الذى تعيده الجروح الشامخات تظل الذات قادرة على الغناء بوصفه فعل مقاومة ويأخذ الغناء بعدا روحيا يتجاوز انتماء الشاعرة إلى التراب وهو ما يمهد لبعض ملامح الرؤية الصوفية كما يبدو من قولها فى الأبيات العمودية التالية للسطور السابقة "سر التراب وشهقة الأكفان / روح تراوغ قبضة الأبدان – يا من إليك الروح تعرج وحدها / خذنى إليك لعلنى ألقانى" فالشاعرة تظل فى اغتراب عن نفسها حتى تتحرر الروح من قبضة الأبدان.
ورغم أن ثنائية الروح والجسد ثنائية رومانسية فإن الشاعرة تجعل منها هما إنسانيا عاما يعبر عن معاناة الإنسان فى الحياة تقول الشاعرة تعبيرا عن هذه الحالة الوجودية "لم لا تموت كما أموت / محرم ورد الحياة على دمى / ويداك ساقية الغياب / لم لا نفتش عن مدى للموت / يعلن جمعنا يوما / ويختصر العذاب / مازلت أحلم والخطى رهق / يساورها الجنون / والنازفون العمر فى صدر الحكاية / شاخصون إلى الفراغ "
تشيع فى السطور السابقة دوال: الغياب – العذاب – الرهق – الجنون – النازفون – الفراغ وهو ما يدل على حالة وجودية ثقيلة الوطء تتمنى الشاعرة الخلاص منها وكما قالت من قبل إن الليل مفتتح النهار نراها تختتم هذه القصيدة بقولها " لم لا نموت جميعنا / فالموت مقتتح الحياة".
غير أن بالقصيد أبعادا أخرى حين تتحدث الشاعرة عن "باب التاريخ" الذى يمنح سره "الكهان والسلطان" و "يحتفى بالمجرمين وبائعى الأحلام فى سوق السراب" فى مقابل "جموع أبناء النهار" المكبلين إلى الظلام؛ مما يمنح الحياة رؤية شبحية تتمطى فيها أشباح الزحام وتصطك فيها الأشجار والأحجار ويعم الكون السكوت ولا تجد الشاعرة مخرجا من هذا غير الدعوة إلى ما يمكن تسميته بثورة الأبواب "يا هذه الأبواب ثورى علنا نجد النجاة" وفى قصيدة "لا هئت لك" تتكرر الدلالات نفسها: الغياهب – الحلك – الظما – الرصاص – المجد الزائف – البوار.
ويبدو أن هذه القصيدة والأبيات العمودية التى تليها أشبه بالقرار والجواب فإذا كانت القصيدة تعرض صورة الحياة على النحو السابق فإن الأبيات العمودية تؤكد أن العدل هو القيمة التى ترد للحياة معناها الحقيقى حين نقرأ "قسما بسر الله فى أسمائه / وبنبض آدم فى هوى حوائه / أنا لاأحابى النهر رغم تولهى / مادام يحرمنا عدالة مائه" ولاشك أن قسوة الحياة تأتى من وطأة الآخرين على الذات وهو مايظهر فى قصيدة " العابرون على دمى " التى تستدعى قصة يوسف وما فعله إخوته به "لا تسألوا عنى القميص مضرجا فلطالما كذبت – على الذئب – الدماء" والاستدعاء – هنا – ضمنى نستطيع أن نستنتجه من الدوال المشيرة للقصة: القميص – الذئب – الدماء لكن الشاعرة فى قصيدة "سيناء" تصرح باسم يوسف عليه السلام حين تقول "يا قلب يوسف من ليوسف إذ يباع بلا ثمن / يعقوب يبكى فى العريش عيالنا / وقميص يوسف يرتديه الذئب فى جرح اليمن" لقد تحول يوسف إلى رمز لمن يعانون ويقتلون فى فلسطين واليمن ولهذا فإن يعقوب المعاصر لم يعد يبكى يوسف، بل يبكى عيالنا فى العريش وهنا توظيف مغاير للقصة القديمة.
كما تعود الشاعرة إلى الماضى القريب حيث طفولتها فى القرية وهو ماض مغاير للحاضر، حيث نجد: إشراقة الصباح والنشوة والضوء والصهيل وتوحيد الله والشدو. ولا تنسى الشاعرة أن تربط هذه المظاهر الطبيعية بصلاة الأم ودعائها، كما تستدعى الموروث الشعبى فى تواصل الأحياء والراحلين وتوظيف فنية الموال وتوظيف اللون حيث تتوقف أمام اللون الأبيض وتصفه بأنه لون منافق لأنه يظهر عكس ما يبطن فهو يظهر الفرح، بينما يبطن الحزن حين يستدعى الكفن وفى قصيدة " امرأتان" توظف الشاعرة المفارقة بين المرأة التى "تشكو ألم الظهر وضعف القلب وخلخلة الأسنان" والأخرى التى "تشكو برح الشوق ونار الحب وتبريح الهجران" إنها المفارقة بين العجز عن الحياة والرغبة فيها.
هذه وقفة سريعة أمام بعض ملامح هذا الديوان الجميل للشاعرة تقى المرسى.