القاهرة 31 مارس 2020 الساعة 11:00 ص
كتب: عاطف محمد عبد المجيد
يتضمن هذا الكتاب مراجعة شاملة لفقه اللغة العربية، تتناول قصتها من مبدئها إلى منتهاها، عسانا أن ندرك ما لهذا الكائن الجميل المقيم معنا وفينا من جلال وحسَب، فنحتشد لنصرته ونتنادى لإنقاذه.. هذا ما يقوله د. عادل مصطفى في كتابه الجميل والقيِّم والمفيد لدارسي ومحبي ومتذوقي اللغة العربية بكل علومها وآدابها. الكتاب عنونَه مؤلفه بـ "مغالطات لغوية.. الطريق الثالث إلى فصحى جديدة"، وصدر عن دار رؤية للنشر والتوزيع.
في مقدمته يؤكد مصطفى أن الفصحى تعاني هذه الأيام وهنًا وذبولا لم يعد محل جدال، وما جعله يقول هذا هو الركاكة التي أصبحت ظاهرة عامة ومناخًا شاملا، كما أصبح اللحن في مبادئ اللغة قاسمًا مشتركًا بين عامة الناس وخاصة الأساتذة والإعلاميين والأدباء. وإن لغة، مثلما يقول مصطفى، تستعصي على سدنتها وأحبارها لهي لغة تفقد طبيعة اللغة ووظيفتها وتستحق من الجميع وقفة للتدبر والمراجعة والتمحيص. مصطفى يرى أن اللغة العربية تقف في حالة خاصة بين اللغات، وهي نسيج وحدها، إذ تُعتبر أعرض اللغات متنًا وأطولها عمرًا.
في مغالطات لغوية نجد عرضًا مفصّلا لعملية جمع اللغة العربية على أيدي النحاة الأوائل مع ذكر بعض الأخطاء المنهجية المعروفة التي وقعوا فيها، مصطفى يرى أنه مثلما ينتج اللؤلؤ عن خطأ حل بالمحار فتغمدتْه حظوة الزمن، فإن لبعض الأخطاء ثمار حلوة وعواقب محمودة ونواتج بعدية سائغة تتجاوز منشأها وتصبح قِيمة بحقها الشخصي. ثم نجد عرضًا لرأي النحاة في نشأة اللغة وطبيعتها.
كذلك نجد حديثًا عن قضية النحو العربي والصراع ما بين ثقافة العرب وثقافة الموالي. ثم نجد هنا تنويهًا عن ظاهرة التغير وأسبابه وأنواعه، والتوتر القائم ما بين فكرة "التغير" وفكرة "اللحن" في أذهان اللغويين القدماء والمحدثين. مصطفى يصل إلى القول بأن الخطأ المشهور لا يعود خطأ، إذ أن شرعية اللغة الشيوع. هنا أيضًا نقرأ عن قضية ازدواجية العرب اللغوية التي تهدد العقل العربي بالانشطار والتشوش ما بين العامية والفصحى. وهنا يرى مصطفى أن سد الفجوة بين العامية والفصحى لا يكون باحتقار العامية، بل بمهادنتها واسترفادها، ورصد فصيحها وترويجه وإدراجه في مناهج التعليم، حتى يأنس النشء بلغتهم التي يدرسونها ولا يعودوا يحسون في دراسة الفصحى أنهم يتعلمون لغة أجنبية.
ضرورة التعريب
في مغالطات لغوية يتعرض مصطفى إلى مسألة تعريب العلم، ويرى أنها مسألة شائكة ومعلقة، وقد بيّن أن التعريب ضرورة ملحة: قومية وعلمية ونفسية ولغوية، وأن التقاعس عن التعريب لهو انتحار جماعي بشع، وتَخَلٍّ عن أمانة تاريخية علينا أن نحملها ولا نشفق منها.
لم يفُت مصطفى، في مغالطات لغوية، أن يتحدث، بحيدة وموضوعية، عما تتمتع به اللغة العربية من فضائل بنيوية ودلالية. وإلى جانب ما سبق يشير مصطفى هنا إلى الطريق الثالث الذي ينبغي أن نتخذه في مسيرنا إلى الفصحى الجديدة التي علينا أن نؤسس لها، مثلما أسس دانتي الإيطالية. مصطفى يؤكد أنه ليس ثمة تناقض بين تجديد اللغة وإحياء التراث كما يبدو للنظرة السطحية العجلى. فالعربية، كما يرى، هي لغة معمرة تنمو من داخلها بالاشتقاق والتعريب، ويظل ماضيها موصولا بحاضرها يغذوه ويمسكه ويمده بأسباب النماء.إحياء التراث، من وجهة نظر مصطفى، ليس غيابًا في الماضي، أو اغترابًا عن الحاضر وغفلة عن الآتي، فلا بناء بغير دعائم، ولا سموق بغير جذور.
وهنا يؤكد مصطفى أن الجيل الذي ينسى ماضيه لهو جيل شائخ لا مستقبل له، ومن التجديد الذي يراه المؤلف أن نبعث بعض الألفاظ المهجورة التي هي أكثر إسعافًا لنا من المشهور وأكثر حداثة من الحديث.
كذلك يرى أن فكرة جعل اللغة مجرد وسيلة للتعبير عن الفكر ونقله إلى الآخرين لهي فكرة تعيسة، فاللغة هي ذخائر المقولات وخزائن المفاهيم، بحيث يستحيل التفكير تفكيرًا مركبًا ثريًّا بلغة ساذجة فقيرة.
البعد الثالث للغة
إن اللغة في منظور مصطفى دالة فكر ونماذج رؤية، وهي حاملة العالم، وأطلس الوجود، بحيث لا يجانبنا الصواب إذا قلنا إن حجم وجودنا هو حجم لغتنا. كذلك يرى مصطفى أنه من السفه أن نتخلى عن هذه اللغة الجميلة الجليلة، بعد كل الذي بلغتْه من الثراء والارتقاء. في مسألة التعريب يقول مصطفى إننا لكي نقول إننا استوعبنا الحداثة حقًّا يتعيّن أن نرى الحداثة استعربت وتحدثت العربية.
ولكي نقول إننا فهمنا العلم حقا ينبغي أن يكون لدينا ما يثبت أن العلم فهِم العربية، أي تعرّب وتوطّن في معجمنا وطاب له المقام، أما ما هو دون ذلك، والقول للمؤلف، فهو استعمال من الظاهر، وتمسّح وتَقّول وتخلّف مقلوب. وفي هذا السياق ينتقد المؤلف أولئك الذين يعيشون هنا معنا في الشرق، غير أنهم ينتسبون إلى العالم الغربي، يتلبّسون بالنموذج الأوروبي الأمريكي، ويتشدقون في مجالسهم بالإنجليزية، ويوقّعون بها أعمالهم ورسائلهم، فيما يثير أسلوبهم الشفقة، وإنجليزيتهم ركيكة عجماء، بحكم انتسابهم إليها.
هؤلاء يظنون أنهم متحضرون مجددون، وهم غارقون إلى الأذقان في تقليد آخر، لقد نسوا لغتهم التي لن يبدعوا إلا بها، واستعاروا لغة غيرهم التي لن يعرفوها إلا بالنقل والوساطة، وبهذا يخسر هؤلاء البعد الثالث للغة، وهو إيحاءات اللفظ وظلاله وشحناته وتداعياته وتجلياته وأقانيمه الأخرى، ويتبنون لغة مسطّحة مصمتة لن يفكروا بها إلا تفكيرًا مسطّحًا مُصمتًا.
ولا يكتفي المؤلف عند هذا الحد من انتقاده لهؤلاء، بل يصل به الأمر إلى أن يقول إنهم قد باعوا أنفسهم مجانًا وصاروا مسوخًا لا تروق أعينَ الشرق أو الغرب، واختاروا أن يكونوا أذيالا لا عمل لها إلا التبعية، ولا مكان إلا المؤخرة.
مصطفى يصل إلى هذا انطلاقًا من كون اللغة شفرة ومنظور ونماذج ورؤية تُشكل وعينا وإدراكنا الخاص للوجود، وتَحكم وجهتنا في الفكر والفعل، وطريقتنا في تصور ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. وبهذا المعنى، مثلما يرى المؤلف، تكون العروبة قرابة رؤية بقدر ما هي قرابة دم، وتكون الدعوة إلى الفصحى دعوة إلى الوحدة، وإلى لمّ الشمل، وإلى اجتماع الإخوة بعد افتراق وشتات وغربة.
وفي سياق آخر يرى المؤلف أن من يتأمل علوم العربية، من نحو وصرف وأصوات وغيرها، لا يسعه إلا الإجلال لمن ابتكروا هذه العلوم من العدم، وشيدوا هذه الصروح من الصفر، بعزم صادق وإخلاص نادر، وحِذق منقطع النظير.
اللغة المشتركة
في مغالطات لغوية يذكر مصطفى سمات اللغة المشتركة ومنها أنها فوق مستوى العامة ولا يستعملونها في خطابهم، وهي ليست في متناول الجميع، ومن سماتها أيضًا أنها لا تنتمي إلى بيئة محلية بعينها، وهي لغة منسجمة موحدة لا يمكن أن تنتمي إلى بيئة خاصة. أيضًا من سمات اللغة المشتركة أنها ليست لغة سليقة.في مغالطات لغوية يُفرد المؤلف فصلا للحديث عن الخلط بين مستوى الشعر ومستوى النثر، مؤكدًا أن الشعر لغة خاصة، والشعر حيود عن اللغة السوية بغية التأثير الاستطيقي "الجمالي الفني". وللشعر نظامه الموسيقي وقوافيه وألفاظه التي يُؤثرها على غيرها. ومن هنا يرى مصطفى أن النحاة قد أخطأوا كثيرًا حينما اعتمدوا في جمع اللغة وتقعيدها على الشعر بالدرجة الأساس، حيث كان ينبغي الاعتماد على النثر بوصفه اللغة السوية القياسية، ويبقى الشعر مستوى آخر من اللغة جديرًا بالدراسة بحقه الشخصي.
ولقد أدى هذا الخلط إلى تضخم قواعد اللغة واضطرابها وتناقضها، وإلى ضروب أخرى من الخلط مازالت الفصحى تعاني من آثارها وجرائرها إلى الآن.
كذلك يتحدث المؤلف عن طبيعة اللغة ونشأتها، عارجًا إلى العلاقة بين الكلمات والأشياء، بين الدال والمدلول، بين الألفاظ وما تشير إليه الألفاظ، مارًّا بالضرورة السيكولوجية في علاقة الدال بالمدلول، وبسطوة اللغة، ذاكرًا ما قاله همبولت بصدد مشكلة اللغة من أن الإنسان يعيش مع أشيائه كما تقدمها له اللغة غالبًا، فكل لغة ترسم دائرة سحرية حول الشعب الذي تنتمي إليه، دائرة لا مفر منها إلا إذا تخطاها إلى دائرة أخرى
.أيضًا يتحدث مصطفى عن منهج البحث اللغوي، وعن اللغة والمنطق قائلا إن اللغة لغة والمنطق منطق، ومَن يُعْمل مقولات المنطق في الظواهر اللغوية، أو يقيس اللغة بمعايير المنطق فإنه يغترب عن الظاهرة اللغوية، ويقع فيما يسمى بالخطأ المقولي. إضافة إلى هذا يفرد مصطفى فصلا من فصول كتابه العشرة لظاهرة التغير اللغوي، وفصلا يتناول فيه الازدواجية اللغوية بين العامية والفصحى، وفصلا آخر لتعريب العلم، ولا ينسى أن يخصص فصلا كاملا أيضًا يتحدث فيه عن مزايا اللغة العربية.
إصلاح اللغة
أما الفصل الأخير من مغالطات لغوية فيكرسه د. عادل مصطفى للحديث عن ضرورة إصلاح حال اللغة في مجالات شتى، منها مجال التقعيد، ومجال التعليم، وفي مجال التعليم باللغة. ثم يُنهي كتابه بتذييل يسميه "تجديد لا تبديد" يتحدث فيه عن كون العربية لا هي عاجزة ولا هي معجزة، وعن كون الترادف وهل هو غِنًى أم ثرثرة، وهل العربية لغة صعبة؟ وبعد كل هذا يقدم وصفة للإصلاح اللغوي.
وبعد.. هذه جولة شيقة وممتعة في كتاب أكثر من مهم، يناقش قضية تخص الوطن العربي بكل بلدانه، داعيًا الجميع إلى لغة سواء تجمع الشمل، وتنقذ الجميع من الشتات والتشرذم، وفي الوقت نفسه يدعو إلى إصلاح حال اللغة مما يجعلها سهلة يسيرة، مُخلّصًا إياها مما علق بها من أخطاء وصعوبات قد تُنفر بعضنا منها. لقد تجولنا في كتاب يستحق مؤلفه شكرًا كبيرًا عليه، كما يستأهل أن نثمّن جهده وأن نشد على يديه أنْ ألقى بأحجار في مياه راكدة، علّها تتحرك فتثمر نقاشات تعود بالفائدة على اللغة العربية وعلى المتحدثين بها.