القاهرة 24 مارس 2020 الساعة 10:05 ص
كتب: حاتم عبد الهادي السيد
تعريف القصة الومضة:
يمكن لنا أن نعرّف هذا الشكل الإبداعي الأجناسي القصصي – كما أستشرف لها - بأنها: الشكل التلغرافي، أو برق الضوء الفنى المباغت للحدس الذى يصنع إدهاشية رامزة موحية تعقبها نهاية مباغتة، تصنع نسقاً إبداعيا حاليا، يحيلنا إلى ذواتنا، ويشرك القارئ أو المتلقي فى تصور الأحداث السابقة، أو اللاحقة لذلك المنتوج الإبداعي، شديد التكثيف، وشديد الخصوصية.
وقصة الومضة:
هي القصة السيموطيقية التى تعتمد الدوال والمدلولات الرامزة والإحالية لتحيلك إلى نهاية إدهاشية تستنطق بها الذات لتحيلها إلى معمل العقل والوجدان معاً، لتنتج لنا تصورات وأفكارا ومواقف ربما مشابهة، أو مماثلة عن طريق الاستدعاء العقلي والوجداني لأحداث متروكة فى الذهنية، أو التى نحّاها العقل جانبا من الزمن لتعاود الظهور، فتتماس القريحة مع النص السردي لتعيد ديمومة إنتاج الأفكار أو الطاقات الكامنة لنرى العالم من جديد بصوره وأشكاله الموحية، والجديدة أيضاً.
قصة الومضة:
هي الشذرة التى تمنح قارئها معطى جمالياً ونسقاً كتابياً مغايراً لما يعرف، فيستدعى معه اشراك الذات القارئة مع المبدع فى انتاجية النص أو استكمال مشهدياته وتخييلاته وقصديات الشعرية فيه .
وقصة الومضة:
هى القصة الضوئية، أو الاختزالية، أو ومضة البرق الإبداعي التى يعتمد المبدع فى كتابتها على عدة عناصر مثل: التكثيف، المفارقة، الإدهاش، الإيحاء، النهاية المباغتة ، وأضيف إليها الدلالة السيموطيقية "دلالة العنوان" الذى يلخّص أو يوجز، أو يشكّل مع النهاية المفارقة الأثر النفسي والجمالي والمشاهداتى، لهذا اللون الفنى الإبداعي الجديد، ودعونا نطلق عليه – بداية - لوناً أو شكلاً، لنضيفه إلى أجناسية القصة العربية ، اذ ليس هذا اللون قد نشأ شيطانياً أو منبتّ الجذور، بل قد سبقته – فيما أحسب - ألوان إبيجرامية، وتوقيعات ، وأشكال أخرى من مثل: القصة القصيرة جداً، والقصة التفاعلية، ولن نقول القصة الميكانيكية، أو الاستاطيقية، تلك التى تخرج السرد عن مضمونيته، وتفرّغه من جماليته، وتصوغه فى قالب أيديولوجي، أو نمط آلى محدد. بل هي لون أدبى يعتمد بلاغة الحذف والتكثيف ليعيد إنتاجية القص بصورة لطيفة، تتغيّا تشاركيّة القارئ والمتلقي معاً، لتتكامل دائرة الهارمونطيقا، أو عملية التنامي النسقي للسرد لدى الكاتب والمتلقي، من خلال الرسالة والأثر الناشئ، أو الإحالي، أو قصدية الغائية من هذا التلقي .
ولنا أن نلمّح إلى أن هذا النوع ليس جديداً على جنس القصة العربية، لكن الجديد فى وضع شروط استشرافية ونمطية معيارية ،ولا نقول آلية، بل هي نسبية، نوعاً ما، لكنها شروط معيارية قد تصلح مع الناقد للتقديم الحكم النقدى، إلا أنها قد لا تتّسق والذائقة الأدبية فى كل الأحايين، وتلك لعمرى معضلة، تجعلنا نشير الى تغليب المرونة الكتابية فى مثل هذه النصوص ، أو الومضات ، بأن نحدد بأن قصة الومضة : لابد ألا تزيد عن سطر أو سطرين، وليس ثمانى كلمات – كما حدد لها سلفاً - حيث تحمل الرسالة الابداعية ديمومة وجودها واكتمالها الذى يهفو إلى الإكمال، من خلال استخدام الحيل البلاغية مثل: المفارقة واحداثيات الدهشة أو الخوف أو التجهم ، أو أي أثر نفسى آخر، وهذا من شأنه توسيع دائرة الخيال لاستنطاق كوامن الذات البشرية ومراكز الاحساس لتتم البرمجة اللغوية العصبية – كما أرى – داخل معية العقل التى تنعكس على الروح والوجدان لتحدث الأثر الناشئ من عملية الإبداع، وتلك لعمرى غائية الفن، أو كما أصطلح: النص المثال أو القصة الأنموذج التى تسير باشتراطات نسقية ولغوية وكتابية وشكلية، لكنها عن طريق التحوير والمماهاة والألعاب اللغوية والخيالية تتماهى فى هارمونى متناغم لتحدث الأثر النفسي المراد، إذ هي تجاذب الروح والعقل لإحداث "شكّة" عقلية، أو وجدانية، لإعادة إيقاظ العقل والروح معاً، وهذه ليست ألغاز لغوية، بل هي لون إبداعي نستشرف له وندلل اليه بالبراهين التطبيقية، ولغيرنا أن يناقشنا ، يختلف معنا ـ أو يتفق ، يضيف أو يكمل لتكتمل دائرة هذا الشكل اذا اعتبرناه شكلاً جديداً، أو لوناً ابداعياً يضاف الى مسيرة الأجناسية القصصية، أو يتباين معها، أو يتقاطع ليؤطر شكله الأنموذجي، أو الذى يمكن أن نعتمده كنقّاد، ومن ثم نستشرف له، و نلقى الأحكام على هذا المنتوج الأدبي الجديد.
- 3 تطبيقات نقدية لبعض قصص الومضة فى الوطن العربى:
بين أيدينا العديد من نماذج قصص الومضة لكتاب من دول عربية جمعتهم الفكرة والالتزام الشديد بنمطية الشروط لهذا الشكل الجديد، انتجوا أعمالاً مغايرة ومفارقة، لكنها تدلل الى احترافية لكتابة القصة، أو للسرد بأشكاله المتعددة، وهى قصص تجريبية ، وليست نماذج دالة فحسب، بل هي فوق هذا نماذج منتقاة، قدمها لنا المبدع مجدى شلبي من خلال مسابقة يومية لقصص الومضة، وقد انتقى هذه القصص الفائزة عدة نقاد وأدباء عديدين فى الوطن العربي، ومع كل فإننا وإن نثمن ذلك إلا أننا نلقى الضوء على هذه النماذج محاولين تطبيق ما سقناه سلفاً لتندمغ النظرية بالتطبيق، وبداية نطرح عشرة نماذج ثم نقدم لها لنرى مدى تحقق كتابة الومضة واشتراطاتها السالفة مع اعتبار ما أضفناه سلفاً – حسب رؤيتنا المتواضعة – واليكم النماذج أولاً :
ذئاب
جَرًدوها من ثيابها؛ جَردتهمْ من انسانيتهم . .
يطالعنا باسم عطوان فى ومضته: "ذئاب" بمضمونية بارعة لفعل التجرد والظلم الذى وقع على تلك الفتاة أو المرأة، فهي بكشف ثيابها وتجردها منها إنما تكشف عورات المجتمع الظالم الذى لا يراعى حرمة أو ضمير ويبقى فعل التجرد شاهداً، او مدلول لدال الذئب المفترس تبقى العلامة السيموطيقية فى العنوان "ذئاب" دالاً منتجاً وشاهداً على وقوع الظلم بفعل التعري وكشف الثياب والعورة، لكنني أرى أن المفارقة هنا تقريرية ولا تدلل الى فعل الدهشة العام، حيث تنتج الدهشة فى تصور المشهدية للجسد المتعري، ولكنها دهشة تحمل معنى التعاطف أو الاستنكار وربما التضامن مع قضية تعرى المجتمع وديكتاتورية الأنظمة، كما تحيل القارئ الى تخيلات يستنبطها بقدر دهشته أو استنكاره، أو يستدعى فيه موقفاً مشابهاً تعرض فيه لظلم وقع عليه من جراء هذا النظام أو الفرد أيضاً وربما تحيلنا الومضة إلى مشهدية الاغتصاب، كذلك لفتاة من مجموعة يشبهون الذئاب، ولكن القاص هنا كرر فعل التجرد بمعناه المغاير ليحيلنا إلى صورتين نمطيتين لفعل التحرش أو الاغتصاب أو الاذلال القسري للأنثى فى مجتمعاتنا الشرقية، أو أي مجتمع كذلك. ومن هنا كنت أرى أن يجيء بكلمة أخرى غير "جردتهم" لينتج - فيما أحسب المعنى التبادلي المتواشج مع مشهدية الفعل؛ لأن التجانس أو الجناس وإن أقر وأكد فعل التعري إلا أن المضمونية لتجسيد مشهدية الحدث وفظاعته ستكون أقوى لو غير فى الاشتقاق اللغوي، ومع هذا تجيء الومضة متسقة مع نمطية القص السردي وإن أنتجت التخالفية الضمنية الإحالية.
وفاء
أقسم ألّا يهجرها؛ عاتبته في نعشه ..
فى قصته: "وفاء" يطالعنا القاص، بومضة رائعة لتجلّى الوفاء الإنساني للزوج بعدم زواجه من أخرى احتراماً لطيب العشرة معها، إلا أن الومضة المفارقة قد أحدثت تخالفاً فى التوقعية، أو كما نقول: لقد كسرت مضمونية الحدس أو التوقع وخالفته لتدلل إلى براعة كاتب استطاع بكلمات مكثفة دالة أن يحيلنا إلى المعنى الإدهاشي غير المتراتب، ليأتي الوفاء كعنوان دال على فعل الحدث ألا وهو الوفاء، رغم معاتبتها له على عدم تزوجه بأخرى، وكأنما تريد له المتعة كنوع من الوفاء أيضاً، كما أحالنا الى ذلك المعنى التراتبي التخالفي المتواشج لاتّساق الناحية الوجدانية لكلا الزوجين معاً، ليدلل هذا الى براعة سارد فى إظهار اقتصاديات اللغة المائزة، وعمق التعبير والوصول إلى غائية المراد ، عبر الدوال والمدلولات السيمولوجية .
حرمان
أهداها الوسادة، وسرق منها النوم.
تجيء ومضة حرمان للقاص محمد فؤاد زين العابدين، أو صفاء محجوب، السودان "تقريرية بفعل استخدامه لأداة العطف "الواو" ومن هنا سقطت موضوعة الإحالية أو السببية، ولو قال: فسرق منها النوم ببناء الفعل للمجهول بضم أوله لكان – كما أرى دالاً يعطي للومضة رونقا، ومع ما أشرت اليه فان المعنى المشاهداتى الذى وصلنا أكثر من رائع ـ أو أنه أراد الخروج بالموضوع ليظل العنوان: "حرمان" جزءاً من السرد، وله ذلك، ولكن المعنى بذلك يتم تلبيسه صورة أخرى، إذ العنوان وإن كان دالاً على الومضة، إلا أنه فيما أحسب يكون جزءاً من الحدث ودالا عليه فحسب وهى قصة جيدة كذلك .
كانت هذه بعض الرؤى الشذرية للنقد الاختزالي الذى نقدمه كذلك، فلا يصح أن نتناول كنقاد هذا الشكل الإبداعي الجديد بمفاهيم ومناهج النقد المتعارف عليها بل هو نقد شذري اختزالي تكثيفى يتواشج مع شكل قصة الومضة ويساوقها حتى تكتمل مسيرة تشكلها فى التربة الإبداعية. ونحن إذ نستشرف لها أفقاً فإننا نعد بتقديم دراسات مستفيضة عن هذا الشكل الأجناسى الجديد للقصة الومضة التى تساير المفاهيم ما بعد الحداثية لتطوير القص والسرد ولتجاوز الشكل إلى المضمون ولتجاوز المضمونية إلى جوهر الإبداع الاختزالي وزمردة الإبداع الجديد .