القاهرة 11 مارس 2020 الساعة 09:23 ص
حوار: صلاح صيام
داخل كل مبدع رحلة قطعها – بحلوها ومرها- ليصل إلى المتلقي الذي غالبا لا يعرف عن هذا المبدع شيئا إلا ما يصل إليه من إنتاجه الإبداعي. وفى هذه السلسة نرصد حياة المبدعين، ونخوص فى أعماقهم علنا نقدم للأجيال الحالية، التى فقدت البوصلة, وأصابها شيء من الإحباط.. صور مشرقة تعينهم على تحمل متاعب الحياة, وتكون نبراسا لهم فى قادمهم..
واليوم موعدنا مع الكاتبة السودانية مناجاة الطيب التى بدأت بقولها:
ليس أصعب على الإنسان من العودة إلى نقطة البداية، فقد تسقط أشياء عن الذاكرة فتحدث شرخا قد تتم معالجته بمهارة الاستنتاج قبل وبعد لتكتمل قصة غير بعيدة التفاصيل، كل ذلك يحدث عند غياب دفتر المذكرات الذي لا يترك كبيرة ولا صغيرة إلا ويتم تدوينها، لا أنكر أن فكرة دفتر المذكرات كانت تأخذني ولكنني لم اكن أجرؤ على الإقدام عليها؛ فبعض الذكريات لا نتمنى أن تلازمنا ونتمنى أن نعود ونمحها من الوجود، وإذا تعمدنا تجاهل تسطيرها لا تستقيم القصة وتفقد كل طعم حملته ونكهة، فهي إما تترك كلها وإما تؤخذ كلها.
لم تكن بدايتي في الحياة تحمل أية نبوءة من أحد بأنه سيكون لي شأن أو مستقبل في شيء يميزني حتى يتم دعمي، فإن تكن أنت الوحيد في اهتمامك في محيط أسرتك فهي أول المصاعب.. أحببت القراءة والاطلاع في وقت مبكرا رغم أنني قضيت عامين في فصول الدراسة أتوعك في القراءة بطلاقة، ولكن الكم الهائل من الصحف والمجلات والكتب الموجودة في منزلنا سرعان ما أعانوني على إجادة القراءة فانطلقت اقرأ كل ما تقع عليه يداى خاصة مكتنزات شنطة الحديد الخاصة بجدي التي كان يضع بها أمتعته الخاصة أيام خدمته بالجيش، وعندما تقاعد صارت مخزنا مصغرا يضم سلسلة الألغاز البوليسية كاملة. وكانت الشنطة موصدة بطبلة ضخمة بعد أن آلت ملكيتها من خالي لخالتي.. ولم يكن هناك من يقترب منها حيث كانت موجودة في ركن قصي من غرفة كانت عبارة عن دكان بقالة تم جرده فأغلق وضم لخارطة المنزل ليصير مخزنا للأغراض نادرة الاستعمال، المهم أنني وجدت طريقة أتعامل بها مع الشنطة دون الاقتراب من الطبلة (حرفنة) وأخذت أسحب كتابا تلو كتاب لقراءته وإرجاعه بعيدا عن الأعين.. فهناك من يرى أن القراءة شيء لا فائدة منه للفتاة، وأفضل لها أن تساعد في الاهتمام بالأعمال المنزلية مثلما تفعل فلانة وعلانة من بنات الأهل أو الجيران وهن في مثل سني؛ مما جعلني أتضايق من ذكرهن دون ذنب جنينه غير مقارنة أهلي لي بهن.. ورغم اعتقادي وثقتي التامة فإنني أحسن منهن ويزداد ذلك الإحساس عندما كنا نتجالس.. وأرى فيهن انبهارا بما أحكيه لهن نتاج قراءاتي واطلاعي على الكتب والمجلات والصحف.
كل ذلك وأنا لم أتجاوز الثانية عشرة من العمر. كانت أمنيتي أن أصبح في يوم من الأيام شيئا مرموقا، وكنت أرى ان بداية طريقي يكمن في القراءة, كنت أحب القصص خاصة قصص ألف ليلة وليلة ويحلو لي التجوال مع أبطال القصص داخل ذلك العالم الافتراضي، ثم قررت أن يكون لي أبطال طوع يدي أنسج لهم المواقف والروايات، وتلك كانت البذرة الأولى لأصبح مؤلفة قصص, ولكن عندما يسألني أحد ماذا تحبين أن تصيري عندما تكبرين؟ أقول عالمة ذرة متأثرة بمدام كوري وبعض قصص العلماء والمكتشفين.. ولكن سرعان ما خبأ تلك الأمنية وصارت الأمنية الأكثر إثارة بالنسبة لي أن أصبح صحفية وبالتحديد في قسم الحوادث لتتبع القضايا الغامضة وفك طلاسمها مع الشرطة، واستمر ذلك الحلم يكبر كل يوم الى أن صار حقيقة، ولكنه غير مكتمل تماما.. فالواقع قد يخالف كل ما يرسم وينسج في دنيا الخيال والامنيات المثالية، فعندما أتيحت لي الفرصة وكنت وقتها في سن مبكرة صدمت بالأدوات المستخدمة في ذلك العالم والتي حتما لن أجيدها؛ لأنها تخالف كل ما تشربته من مثل وقيم لا يمكنني التمرد عليها أو مخالفتها وذهبت وما عاد حلم الصحافة هو المفضل بالنسبة لي، فقد كان مليء بالكذب والتملق والنفاق فقد ولجتها في أسوأ مراحلة من مراحلها في بلدي فيد الرقيب كانت تطبق على الأنفاس.. واكتشفت شيئا عجبا أن لا وجود للسلطة الرابعة في وطني فكله بأمر الحاكم وهو ليس كما رسمه لي خيالي بانه يكافئ من ينصحه ويعاقب المفسد.. أبدا أنه شخص يطلق قبضته عبر أناس يحملون ابتسامة صفراء كذوب أشبه ببروز أنياب الليث حين يبتسم... المهم أيقنت أنه ليس مكاني وأن علي مغادرته للبحث عن نفسي وعن ذاتي بعيدا عنه.
وعدت مرة أخرى إلى عالمي المحبوب.. عالم الأطفال هم البذرة وهم الحل لكثير من مأزق الشعوب.. إذن لتكن سكتي الجمع بين اثنين أحبهما الصحافة وأدب الأطفال.. وقد كانت لي تجربة سابقة وأليمة مع مجلة أطفال اسمها "صباح" كانت تحمل ملامح مجلة ماجد، لولا رداءة الورق والطباعة. كانت سودانية الملامح عملت بها شهور كأصغر سكرتير تحرير إلى أن فوجئت ذات يوم برئيس التحرير يسلمني خطابا ينهي خدمتي والصراحة كانت خطوة متوقعة لبعض المواقف غير المرنة من جانبي، فقد كنت في اتجاه واحد وحقانية أكثر من اللازم، ولكن رغما عن ذلك فقد أصبت بإحباط وخيبة أمل منعتني من مواجهة أهلي بما حدث لي.
ونكمل فى الحلقة القادمة إن شاء الله.